التوتّرات الأمنية المتصاعدة في العراق، سواء باستهداف القوات الأميركية الذي صار شبه يومي مع مطلع العام الجديد، أو بالهجمات المتبادلة بين التشكيلات العسكرية المختلفة، تُنذر بصراع سياسي كبير متعدّد الأوجه، تتداخل فيه المصالح الدولية والإقليمية، بما يجعل البلد ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات، ولو على خلفية تفاوُض بين تلك الأطراف، وبخاصة بين الولايات المتحدة وإيران على الملفّ النووي، وكذلك بين السعودية وإيران
هذا الاتفاق بالتحديد هو الذي أخلّ بالتوازن النسبي في مجلس النواب الذي كان قائماً بين تحالف الغالبية ومُعارضيه، بحيث صار ذلك التحالف يعكس مصالح كلّ من الولايات المتحدة والسعودية والإمارات وتركيا في العراق. «التيار الصدري» نفسه الذي فاز بـ73 نائباً في الانتخابات، يُنظر إليه في الغرب والخليج على أنه حليف موضوعي، على الأقلّ، لمجرّد أنه يرفض ما يسمّيه «السيطرة الإيرانية» عبر القوى الحليفة لطهران، على العراق، إلّا أن الصدر أيضاً لا يخفي رغبته بتحسين العلاقات مع السعودية والإمارات، كما أن له علاقات قوية جدّاً ببريطانيا يتولّى تنسيقها عددٌ من معاونيه الذين عاشوا في المنفى البريطاني في زمن صدام حسين، وعلى رأسهم السفير العراقي في لندن وشقيق زوجته محمد جعفر الصدر، والأخيران ابنا السيد محمد باقر الصدر.
تَنظر فصائل المقاومة و»الحشد الشعبي» بتوجّس إلى الصدر، باعتباره رجلاً لا يمكن التنبّؤ بما ينوي فعله، بعد أن نكث أكثر من مرّة بتعهّدات كان قد قطعها لقادتها، وآخرها اتفاق تمّ بوساطة المعنيّين في «محور المقاومة» قبل الجلسة الافتتاحية لمجلس النواب، ليُفاجأوا خلال الجلسة بتوجُّه مختلف تماماً مِن قِبَله ظهَر مع انتخاب الحلبوسي الذي أعاد تعويم «تحالف الغالبية» بينه وبين حلفاء الولايات المتحدة والخليج، مع خطّة تهدف إلى السيطرة على الرئاسات الثلاث وتشكيل حكومة غالبية ببرنامج عمل يتصدّره نزع سلاح فصائل المقاومة.
السيناريو الأكثر خطورة هو امتداد التصعيد الأمني الراهن ليتحوّل إلى مواجهة بين فصائل المقاومة وأنصار الصدر
الطرف الثالث في تحالف الغالبية المفترض، أي «الحزب الديموقراطي الكردستاني» الذي فاز بـ31 مقعداً في مجلس النواب، يبيّت نية السيطرة التامّة على إقليم كردستان سياسياً، بعدما فشل في ذلك عسكرياً في تسعينيات القرن الماضي. وهو نفسه انقلب على تفاهماته مع «الاتحاد الوطني الكردستاني»، والتي تقضي بالتوجُّه سويّة إلى مفاوضات تشكيل الحكومة، ليَكشف بعد انتخاب الحلبوسي عن عدم رغبته بالتجديد لبرهم صالح في منصب الرئاسة، الأمر الذي دفع بـ»الاتحاد الوطني» إلى التهديد بالعودة إلى الوضع السابق للاتفاق الكردي المنجَز في عام 2006 لتوحيد المنطقتَين الكرديتَين تحت سلطة حكومة واحدة، لا سيما أن الاتحاد ما زال يسيطر عبر «البيشمركة» الخاصة به على نصف «إقليم كردستان».
لكن السيناريو الأكثر خطورة، هو أن يمتدّ التصعيد الأمني الراهن، ليتحوّل إلى مواجهة بين فصائل المقاومة وأنصار الصدر، وهو ما أظهر الجانبان حتى الآن رغبة في تجنُّبه. ففي حين يسيطر الصدر على مفاصل أساسية في الدولة، مع تيّار منتشر له مؤسّساته الراسخة وإمكانياته الكبيرة، إلّا أن الطرف الأقوى عسكرياً على الأرض هو «الحشد الشعبي» وفصائل المقاومة، وهو راكم قوّته على مدى سنوات طويلة من قتال الاحتلال، ثمّ استطاع هزيمة تنظيم «داعش» الذي كان الجيش والقوى الأمنية قد انهارا أمامه، في الوقت الذي كان يرفض فيه الصدر المشاركة عسكرياً في القتال ضدّ التنظيم، واكتفى بمشاركة رمزية بعد محاولات كثيرة قام بها الشهيد قاسم سليماني لإقناعه بالانضمام إلى المقاومة.
على هذه الخلفية، تصاعَدت، منذ مطلع العام الجديد، الهجمات ضدّ القواعد الأميركية لتُصبح شبه يومية، كما ضدّ أهداف أخرى ترتبط بالصراع السياسي، سواء بتفجير مقرّ حزب الحلبوسي في الأعظمية في بغداد، أو بالهجمات بصواريخ «كاتيوشا» طاولت قوات «البيشمركة» الكردية في منطقة كركوك، في ظلّ تقارير عن تقارب بين فصائل المقاومة وبين «حزب العمال الكردستاني» الذي تصفه تركيا بـ»الإرهابي». وفي المقابل، تزايدت أيضاً الاغتيالات التي تستهدف كوادر في «الحشد الشعبي» وفصائل المقاومة. وحدها عودة الصدر إلى التفاهمات مع الطرف «الشيعي» الآخر يمكن أن تُجنِّب العراق صداماً محتوماً تقود إليه بسرعة التطوّرات الأخيرة. وهذا يحتاج إلى توفير أرضية تسمح باستئناف الوساطة بينه وبين القوى «الشيعية» المُعارِضة له.
وتفيد المعلومات بأن اتفاقاً حصل على عقد اجتماع آخر بين الصدر وقادة «الإطار التنسيقي» خلال أيام، إثر لقاء جمع الصدر ليل أول من أمس برئيس تحالف «الفتح» هادي العامري، بعد البلبلة التي ثارت حول دستورية انتخاب الحلبوسي، والذي طعن فيه «الإطار التنسيقي» أمام المحكمة الاتحادية العليا التي جمّدت الانتخاب إلى حين بتّها بأساس الطعن، ما يعني عملياً تعثُّر مشروع تحالف الغالبية مؤقّتاً على الأقل. وسبق للمحكمة ذاتها أن انتظرت توافقاً سياسياً قبل أن تبتّ بالطعن على الانتخابات التشريعية لمصلحة تحالف الغالبية المفترض. وهذه المرّة أيضاً، ستُفسح المحكمة المجال أمام التوصّل إلى توافُق سياسي، قبل أن تَفصل في الطعن الجديد.