محاولة اغتيال المفكّر ألكسندر دوغين، التي أدّت إلى مقتل ابنته داريا، تُظهر أن حرب «إضعاف روسيا»، وهي الهدف الذي أعلن عنه وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، للمواجهة التي يخوضها المعسكر الغربي معها في أوكرانيا، تتضمّن أبعاداً أكثر شراسة وخطورة من تلك التي دارت بين المعسكَرين الدوليَّين خلال الحرب الباردة. فإبّان الأخيرة، وفي أيّام حرب أفغانستان مثلاً، وعلى رغم الدعم الهائل الذي وفّرته الولايات المتحدة وحلفاؤها للمجاهدين الأفغان ضدّ الجيش السوفياتي، هي التزمت بخطٍّ أحمر واضح، وهو عدم الإقدام على أيّ عمل أمني داخل حدود الاتحاد السوفياتي. انطبق الأمر نفسه على سلوك موسكو في فترة حرب فيتنام، للمثال لا الحصر، إذ ساندت بقوّة مقاتلي الفيتكونغ ضدّ المحتلّين الأميركيين من دون أن تدفعهم، أو أيّ طرف مؤيّد لهم، إلى شنّ هجمات داخل الأراضي الأميركية. حصْر النزاعات في ساحاتها «الأصليّة»، والحؤول دون استهداف القوّة العظمى المتورّطة فيها على أراضيها، كانا ضمن القواعد المتعارف عليها في تلك المرحلة، لمنع تعاظم حدّة التوتر بين القوى العظمى إلى مستوى قد يقود إلى صدام مباشر في ما بينها.
متابعةُ تطوّرات الحرب في أوكرانيا تفيد بأن هذه القواعد لم تَعُد سارية المفعول. فمن المرجّح أن سلسلة «الانفجارات الغامضة» التي وقعت في جزيرة القرم، وفي محافظة بيلغورود الروسية المحاذية لأوكرانيا، ناجمة عن هجمات شنّها الجيش الأوكراني، بعد حصوله على المزيد من الأسلحة والصواريخ الغربية المتطوّرة، وهو ما أقرّت به مصادره لوسائل إعلامية غربية. أدّت هذه التطوّرات، إضافةً إلى إعلان الولايات المتحدة عن صفقة أسلحة جديدة إلى كييف بقيمة 800 مليون دولار، إلى اتهام سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي، نيكولاي باتروشيف، للغرب، بالاستعداد لنزاع مسلّح مفتوح مع بلاده. ولا شكّ في أن محاولة اغتيال دوغين، المفكر المقرّب من الكرملين، الذي لا يحتلّ أيّ منصب رسمي، في ضواحي موسكو، تشي بأن المعسكر الغربي، الذي يدير المعركة العسكرية على الساحة الأوكرانية، قرّر بالتوازي معها اعتماد العمليات الأمنية لزعزعة الاستقرار الداخلي لروسيا. غاية واشنطن، كما أفصح أوستن، هي إضعافها، وبأيّ ثمن!
لماذا دوغين؟
ليس لألكسندر دوغين، كما أسلفنا، أيّ منصب رسمي في روسيا. لكن المفكّر المتخصّص في الشؤون الجيوسياسية، إضافة إلى مساهماته في مجال الفلسفة، تربطه صلات وثيقة بالرئيس الروسي، وبعددٍ من معاونيه السياسيين والعسكريين والأمنيين. الرجل الذي وصف بـ«بابا الأوراسية» منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، عند وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة، كان داعيةً لتحالف بلاده مع الصين والهند والعالم الإسلامي في مواجهة الغرب الساعي، وفقاً له، إلى إضعافها وتفكيكها، والانفراد بالموقع المهيمن على صعيد عالمي. لم تكن آراء دوغين تمثّل، في تلك الفترة، التيار الرئيسي في القيادة الروسية. فقد اعترف بوتين بنفسه، في الخطاب الذي ألقاه في 22 شباط الماضي، أي قبل يومين من التدخُّل العسكري في أوكرانيا، بأنه طلب من نظيره الأميركي آنذاك، بيل كلينتون، خلال زيارته لموسكو في بداية عام 2000، أن توافق واشنطن على انضمام موسكو إلى «الناتو»، من دون أن يلقى منه أيّ استجابة. وفي السنة التي تلت، تحدّث بوتين، في خطاب ألقاه أمام البرلمان الألماني، عن «المصير الأوروبي» لروسيا، ولم يجد آذاناً صاغية بين المسؤولين الألمان والأوروبيين. راهن الرئيس الروسي، ومعه قطاع معتَبر من النخب الروسية، على إمكانية التوصّل إلى تفاهمات عميقة مع القوى الغربية تتيح التأسيس لشراكة بينهما على قاعدة المصالح المشتركة والتعاون في جميع الميادين، لكنه أخفق في ذلك. ومع استمرار توسيع حلف «الناتو» شرقاً، وخاصة بعد عام 2004، أيقن بوتين أن استراتيجية الاحتواء لا تزال معتمدة حيال بلاده، ومعه بعض أبرز معاونيه المتحمّسين سابقاً لعلاقة اندماج مع الغرب، مثل سيرجي كاراغانوف، والذين أصبحوا من أنصار القطيعة معه، كما شرح الأخير في مقالته الشهيرة «عقيدة بوتين».
محاولة اغتيال ألكسندر دوغين، في ضواحي موسكو، وفي سياق احتدام الحرب في أوكرانيا، هي رسالة مزدوجة موجّهة للقيادة الروسية من جهة، ولشعبها من جهة أخرى. الهدف هو إفهام القيادة الروسية بأنّ الأثمان التي ستدفعها لقرار مضيّها في الحرب لن تقتصر على الخسائر التي تتكبّدها في الميدان الأوكراني، بل هي ستتعدّاه لتشمل الداخل الروسي، والدوائر المقربة منها. أما بالنسبة إلى الرأي العام، فإن الذين دبّروا هذه المحاولة يريدون إقناعه بأن الأمن أصبح مفقوداً، وأن الأوضاع التي بقيت مستقرّة في الداخل الروسي منذ اندلاع النزاع، لن تبقى كذلك، وأن مَن ينال من مقرّبين من رأس هرم السلطة، لديه قدرة إيذاء لا يستهان بها. ينبغي التوقّف عند تصريح ماريا زاخاروفا، الناطقة باسم الخارجية الروسية، واتّهامها للمسؤولين الأوكرانيين، في حال إثبات ضلوعهم في المحاولة باستخدامهم لإرهاب الدولة. عندما يتمّ تصنيف أيّ جهة، دولتية أو غير دولتية، على أنها إرهابية، قد يكون هذا الأمر مقدِّمة لاستهدافها. هذا ما فعلته الولايات المتحدة خلال عهد ترامب، عندما صنّفت الحرس الثوري الإيراني على أنه منظّمة إرهابية، وقامت بعدها باغتيال اللواء الشهيد قاسم سليماني. تأكُّد ضلوع القيادة الأوكرانية في المحاولة، سيعني أنها ستصبح في دائرة الاستهداف المباشر. لكن القيادة الروسية مدركة لحقيقة الإشراف الغربي المباشر على المجابهة التي تخاض معها، وأن قرار تهديد الأمن والاستقرار الداخليَّين لبلادها، لم تتّخذه كييف وحدها. لم يحصل ذلك في أوج الحرب الباردة، لكنه يحصل اليوم، لأن الإمبراطورية الأميركية المنحدرة لم تَعُد واثقة من قدرتها على الانتصار في حرب باردة كما في الماضي، فتعمد إلى «تسخين» تلك الجارية حالياً. هذا خيار محفوف بالمخاطر.