يعيش اللبنانيون كذبة أن الفرق بين جيلَي الآباء والأبناء من حكام الخليج العربي، سببه عدم وجود علاقة حقيقية للأبناء بلبنان. لكنّ تدقيقاً جدياً، يكشف أن حجم التعامل والإنفاق المالي الذي رعاه الخليجيون خلال العقدَين الماضيين في لبنان، يعكس وجود اهتمام مركزي، لا يتصل فقط بفكرة السياحة والخدمات وخلافه من الأساطير اللبنانية، بل بدور سياسي واقتصادي. أما الخدمات، فمتوفرة أصلاً في بلاد عربية أخرى، وبلاد غربية أيضاً.
اليوم، عندما يتوتّر لبنانيون إزاء ما يقولون إنه لامبالاة خليجية ببلدهم، يفترضون أن الأمر متعلق بانهيار الدولة والخدمات. وهؤلاء يتناسون أن بيروت لم تكن مقصداً للترفيه فقط، بل كانت مقصداً لبعضهم من أجل العلم، وللبعض الآخر من أجل الاستثمار الذي يحقق عائدات سريعة أيضاً. ومن يتحدث كثيراً عن الودائع الخليجية التي خرجت من مصارف لبنان، لا يريد أن يروي لنا، مرة واحدة، عن حجم الأرباح التي حققها هؤلاء خلال ثلاثة عقود، بناءً على السياسات التي صنعها ابنهم البارّ رفيق الحريري، وطبّقها فريق من المصرفيين بقيادة رياض سلامة، وبحماية نادي أمراء الحرب والمال…
هل يخرج من يمكن أن يقول لنا، بدقة، كم هو حجم الأموال العائدة لشخصيات خليجية، من أهل الحكم أو القريبين منهم، التي حُوّلت الى الخارج بعد أزمة تشرين 2019؟ وهل هناك من يجرؤ على مقارنة حجم الودائع التي نقلها أبناء هذه الدول الى مصارف لبنان، بحجم الودائع التي نقلتها أنظمة عربية مستبدّة الى هذه المصارف، ولا أحد يأتي على سيرتها اليوم؟
ما تغيّر، عملياً، هو موقع لبنان في الصراع الكبير في المنطقة. فالسعودية والكويت والإمارات كانت تتصرّف مع لبنان على أنه جزء من المحور الذي تقوده الولايات المتحدة، وأن الوصيّ الغربيّ جعله ساحة لكل من ينتمي الى ناديه ليفعل ما يريد من بناء مراكز قوى له داخل الحكم والمؤسسات على أنواعها، أو رعاية ملل وفق خريطة مذهبية واجتماعية معينة، أو تمويل استثمارات تبقيه في مربع الاقتصاد الريعي. وقد كان لهذه لدول رجالها في كل مكان في لبنان، وحتى عندما كانت سوريا تديره بتفاهم مع الغرب ودول الخليج، كانت تحترم حصة هؤلاء في النفوذ والحكم، وإلا من كان يمثل رفيق الحريري في تسوية عام 1992… ومن منع الاقتراب من رجاله في المصارف والتجارة والأسواق طوال هذه المدة؟
ما استجدّ في مقاربة هذه الدول للبنان، هو ما حصل خلال العقدَين الأخيرين. وتحديداً بعد عام 2006، مع تحوّل نوع التطلّب الغربي من هذه الدول في مواجهة حالة المقاومة في المنطقة، سواء في لبنان أو في فلسطين. ومنذ تلك الأيام، بدأت وتيرة مختلفة في التعامل مع قوى المقاومة، وفي مقدّمها حزب الله، ثم انتقلت بقوة الى حركة “حماس” بوصفها أيضاً جزءاً من تنظيم “الإخوان المسلمين”. وعندما اضطرّت إمارة دبي إلى الكشف عن شبكة كبيرة للاستخبارات الإسرائيلية اغتالت المقاوم محمود المبحوح عام 2010، فعلت ذلك نتيجة مجموعة من العناصر، أبرزها أن دبي كانت تسمح لكل أجهزة مخابرات العالم بالعبور عبرها، شرط عدم تنفيذ عمليات على أراضيها. وهو أمر سبق أن حصل مع تنظيم “القاعدة” أيضاً. لكن ما تغيّر فعلياً هو أن “حماس” طُردت من دبي، بينما فُتحت الأبواب على مصراعيها للوجود الأمني الإسرائيلي.
مشكلة الإمارات تجاه المقاومة في لبنان أنها اتّخذت شكلاً عدائياً غير مبرّر، وخصوصاً أنه لم يسبق لجهة كحزب الله أن أضرّت بهذا البلد. وحتى الأخبار التي يرويها العدوّ الإسرائيلي عن أنشطة في الإمارات وغيرها، يتبيّن أنها – بمعزل عن مدى صحّتها أو دقّتها – لم تكن بالشكل الذي يتسبّب لدبي بمشكلات كبيرة. إضافة الى أنه ليس لدى قوى المقاومة في لبنان وفلسطين جدول أعمال خاص بهذه الدولة.
ومنذ 15 سنة على الأقل، أطلقت الإمارات برنامجاً في لبنان وعلى أراضيها وفي فلسطين وسوريا واليمن، يستهدف توجيه ضربات مباشرة الى المقاومة كقوى سياسية أو عسكرية، وإلى البيئة الشعبية للمقاومة. لكن الغباء الأمني لدى هذه الدولة يجعلها تضرب خبطَ عشواءَ في معظم الأحيان. وقد تورّطت في برنامج قهر تعسّفي ضدّ كل من تعتقد، لحسابات غير معروفة، أنه يخدم المقاومة بطريقة أو بأخرى، ووصلت إلى حدّ استخدام المقاومة حيلة لمعاقبة الكثيرين على خلفيّة ملفات غير سياسية.
مشكلة الإمارات العربية في هذا الجانب لا تنحصر في العقل الخبيث والمريض لقادتها، بل يعود إصرارها على ما تقوم به، بدرجة كبيرة، إلى أنها تجد نفسها في موقع الطرف غير المردوع، وغير الخائف على دفع ثمن جرائمه. وهي تتّكل ضمناً على أن خصومها ليسوا في وارد القيام بأيّ ردّ فعل يتسبّب لها بمشكلات كبيرة… وهو اعتقاد راسخ عند قياداتها السياسية والأمنية… لكن، من قال إن هذا قدر محتوم؟!