رهان أميركا وإسرائيل على إخضاع إيران يصطدم بترسانة متطوّرة وإرادة مقاومة، في مواجهة تُنذر بتحوّل استراتيجي يهدّد هيمنة الغرب والاحتلال.
تشهد المنطقة لحظة من التوتّر المتصاعد، تجلّت خصوصاً في التهديدات التي أطلقها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وردّ المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، السيد علي الخامنئي، عليها.
ولم يكن تبادل الرسائل هذا، مجرّد استعراض مواقف، وإنّما نقطة تحوّل في المواجهة بين إيران والمحور الأميركي – الإسرائيلي، في ما يعكس رهاناً أميركيّاً على أن يؤدّي الضغط العسكري الإسرائيلي، مع التهديد بانخراط واشنطن في الحرب، إلى إحداث تحوّل في توجّهات القيادة الإيرانية ومواقفها.
ويُستعاد، في هذا السياق، سيناريو الثمانينيّات عندما أعلنت إيران موافقتها على وقف إطلاق النار في أعقاب التدخل الأميركي الذي أسفر عن تدمير عدد من قطع الأسطول الإيراني والمنشآت النفطية، وتبلوُر تقدير في طهران بأنّ الوضع الاقتصادي أصبح يهدّد النظام الإسلامي، في حينه.
على أنّ ثمّة فارقاً جوهريّاً بين إيران الثمانينيّات، وإيران 2025، التي أصبحت تمتلك ترسانة صاروخية متطوّرة، وبرنامجاً نوويّاً يجعل أيّ مواجهة معها محفوفة بتكاليف إستراتيجية وأمنيّة، وذلك فضلاً عن أنّ البيئة الإقليمية باتت مختلفة تماماً عمّا كانت عليه في السابق.
وفي هذه الأجواء، جاءت مواقف الخامنئي لتبدّد الرهان على تكرار «تجرّع السمّ» الذي ينتظرونه في كل من واشنطن وتل أبيب. وفي ضوء هذا التعقيد، تجد إسرائيل والولايات المتحدة نفسيهما أمام ثلاثة سيناريوات، لكلّ منها مخاطره وقيوده:
أولًا: الرهان على حافة الحرب
يقوم هذا السيناريو على استمرار الضربات الجوية الإسرائيلية، وربّما الأميركية، ضدّ مواقع إيرانية حسّاسة، بهدف فرض معادلة ميدانية تدفع طهران إلى التفاوض بشروط أدنى.
لكنّ ذلك الخيار يتطلّب إدارة دقيقة للتصعيد من دون الانجرار إلى مواجهة شاملة، ما يعني أنه محفوف بالمخاطر؛ إذ إنّ إيران قد تعتبره إعلان حرب، وتردّ عليه بهجمات مباشرة أو عبر حلفائها، ما قد يؤدّي إلى توسّع سريع في رقعة المواجهة.
كما أنّ التعويل على تراجع طهران السياسي، وعودتها إلى طاولة المفاوضات تحت النار، يبدو غير واقعي. من هنا، فإنّ لعبة الأعصاب، أو بتعبير أدقّ صراع الإرادات، أقرب إلى مقامرة غير محسوبة، في بيئة مشتعلة كمنطقة الشرق الأوسط.
ثانياً: إسقاط النظام – مغامرة غير واقعية
يتّسم هذا السيناريو بأقصى درجات التصعيد، عبر استهداف مكثّف للبنية التحتية العسكرية والمدنية الإيرانية بهدف إنهاك النظام أو دفعه نحو الانهيار الداخلي. لكنّ الرهان على تفكّك الدولة الإيرانية يتجاهل التماسك البنيوي الذي راكمته طهران على مدار عقود.
فبدل أن يُضعف العدوان، النظام، قد يُنتج التفافاً داخليّاً واسعاً حوله. كما أنّ ردّ إيران سيكون شاملاً وعنيفاً، وعبر كل الجبهات، مع تهديد مباشر للممرّات البحرية، سيستتبع حتماً ارتفاعاً في أسعار النفط.
ثالثًا: الانخراط الأميركي – نار باردة تحرق الجميع
يتمثّل السيناريو الأكثر حساسيّة في تدخل أميركي مباشر ضدّ إيران، سواء بشكل محدود أو واسع النطاق. وقد يُغري هذا الخيار بعض دوائر القرار في واشنطن، باعتباره فرصة لتقويض المشروع النووي الإيراني، وإعادة ضبط المشهد الإقليمي بما يخدم الأمن الإسرائيلي ويعزّز النفوذ الأميركي.
لكنّ الانخراط العسكري الأميركي يطرح جملة من التحدّيات أمام واشنطن؛ إذ قد يتحوّل تدخّلها إلى مستنقع استنزاف عسكري واقتصادي لها، في منطقة لم تَعُد تمثّل رأس أولويّاتها. كما أنّ استهداف إيران سيعرّض القوات الأميركية وقواعد الولايات المتحدة في الخليج والعراق وسوريا إلى ردود مؤلمة، بالتوازي مع ارتدادات داخلية على المزاج الانتخابي الأميركي.
أما بالنسبة إلى طهران، فإنّ أيّ ضربة أميركية ستقابَل بردود صاروخية مكثّفة، وعمليات ضدّ المصالح الأميركية والإسرائيلية في الإقليم. كما قد تُستخدم أوراق القوّة البحرية لإرباك حركة الملاحة في مضيق هرمز، ما سيُشعل أسعار الطاقة عالمياً.
وبالانتقال إلى إسرائيل، فهي ستجد نفسها الشريك الأول في الحرب، والأكثر عرضة للخطر، خاصة إذا قرّرت الولايات المتحدة الاكتفاء بضربة أُولى ثمّ الانكفاء. وحينها، ستكون تل أبيب وحدها في مواجهة ردود غير محسوبة ستطال عمقها الداخلي.
وعلى مستوى المنطقة وللعالم، يعني دخول أميركا في الحرب تفجير جبهات خامدة، من سوريا إلى اليمن، وانفلاتاً أمنيّاً يمتدّ من المشرق إلى البحر الأحمر، مع تداعيات اقتصادية قد تُنهك الدول الهشّة وتخلق فراغاً يُسرّع التمدّد الروسي – الصيني.
في الخلاصة، يَظهر أنّ أيّاً من السيناريوات لا يحمل حلّاً، لكن ذلك لا يعني أنّ الولايات المتحدة لن تنخرط في الحرب، بشكل أو بآخر، بل لا يزال هذا السيناريو هو المرجّح، خاصة وأنّ الامتناع عنه سيضع إسرائيل أمام خيارين: إمّا التورّط في حرب استنزاف لا تقدر عليها، أو التراجع عن سقف أهدافها مع الإقرار بعدم معالجة البرنامج النووي الإيراني في ظلّ بقاء منشأة «فوردو».
وإذا كانت الرغبة في «ضربة حاسمة» تصطدم بواقع إيراني أكثر تعقيداً من ذي قبل، فإنّ الرهان على إسقاط النظام يواجه بدوره قيوداً ومخاطر. أمّا الانخراط الأميركي، فليس سوى وصفة تفجير لا تحمِل معها ضمانات إستراتيجية. ولذا، فإنّ المنطقة، اليوم، ليست على حافة اشتباك فقط، بل على حافة تحوّل قد يُعيد رسم خريطتها بالكامل.
علي حيدر