إيران تزيل كاميرات «الوكالة الدولية للطاقة الذرية» وتلوّح بتعديل عقيدتها النووية، وسط قلق أوروبي وضغوط أميركية لإحياء التفاوض تفادياً لانفجار غير قابل للاحتواء.
لندن | في لحظة دقيقة وحاسمة من تاريخ الشرق الأوسط، يجد العالم نفسه مجدداً أمام معضلة نووية، تشبه إلى حدّ بعيد تلك التي عاشها في صيف عام 1967، عندما قررت إسرائيل، القلقة أبداً من محيط معادٍ لها، أن تَعبر بوابة إنتاج القنبلة النووية. واليوم، وبعد نحو ستة عقود، تقف إيران أمام خيار مشابه – وربما أكثر تعقيداً –، إثر انهيار نظام الرقابة الأممي بحكم العدوان الإسرائيلي والأميركي، وانحياز الأوروبيين السافر إلى إسرائيل، والاتهامات المتبادلة بين طهران و«الوكالة الدولية للطاقة الذريّة» حول نوايا الطرفين.
وكانت إيران قد أعلنت، أخيراً، إزالة كاميرات الرقابة التابعة للوكالة من منشآتها النووية، متهمةً إسرائيل بالحصول على بيانات حساسة منها، ما دفعها أيضاً إلى منع مدير المنظمة المتصهين، رافائيل غروسي، من دخول البلاد. ورغم محاولات التهدئة الأوروبية، السرية منها والعلنية، أعرب وزراء خارجية كل من فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة، في بيان مشترك لهم، عن «القلق البالغ» من هذا القرار، داعين إيران إلى استئناف التعاون الكامل مع الوكالة، وضمان سلامة مفتشيها.
لكن المخاوف الأوروبية لا تتوقف عند حدود وقف التعاون التقني؛ إذ إن طهران لوّحت علناً بتغيير عقيدتها النووية، وهو ما تابعته لندن وباريس وبرلين بتوجس، خصوصاً عقب تصريح كمال خرازي، مستشار المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، عن أن إيران «لا تسعى إلى إنتاج أسلحة نووية»، ولكنها ستضطر إلى تغيير هذا الموقف إذا واجهت تحدياً وجودياً. ومع تهديد إسرائيل بتصعيد ضرباتها لخنق القدرات النووية الإيرانية، واستمرار إدارة دونالد ترامب في دعمها سعياً إلى حرمان طهران من تكنولوجيا الطاقة النووية، يرى عدد متزايد من المحللين الغربيين أن المسافة بين إيران والقنبلة النووية قد أصبحت بالفعل أقصر من أي وقت مضى.
وهكذا، يبدو كأن مكر التاريخ يعيد نفسه؛ ففي عام 1967، ومع تصاعد التوترات عشيّة حرب الأيام الستة، سارعت إسرائيل إلى تجميع أول سلاح نووي بدائي، جاهز للتفجير إذا شعرت «الدولة» بأنها على وشك الفناء، لكن لم يتم استخدامه بعدما انتصرت إسرائيل في الحرب، لتغدو منذ ذلك الحين قوة نووية غير معلنة، بحماية ضمنية من الولايات المتحدة والغرب، وتفاهم غير مكتوب يُعرف بـ«عقيدة بيغن»، ينص على تدمير أي برنامج نووي عدو لها قبل أن يتحول إلى خطر فعلي، الأمر الذي طبّقته إسرائيل والولايات المتحدة بشكل متتابع، لتفكيك مشاريع مصر وسوريا والعراق وليبيا بوسائل متنوعة.
واليوم، يرى مراقبون كثر أن إيران تحاكي في سلوكها النووي مراحل إسرائيل الأولى: برنامج مفتوح جزئياً، وسري جزئياً، وقدرات تكنولوجية متقدمة، في انتظار إرادة سياسية حاسمة. إلا أن الفرق الأساسي يكمن في البيئة الدولية المعادية بشدة لطهران، مقارنة بتواطؤ الغرب الكليّ مع برنامج تل أبيب.
وكانت الترويكا الأوروبيّة التي سمسرت الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015 مع الولايات المتحدة – في عهد إدارة باراك أوباما -، حاولت مراراً إنقاذه بعد انسحاب واشنطن منه عام 2018 – في ولاية ترامب الأولى -، غير أن الضربات الأخيرة التي استهدفت منشآت نطنز وفوردو وأصفهان، ونفذتها واشنطن بنفسها، جاءت على خلفية إدانة غير مسبوقة لسلوك طهران من قبل «الوكالة الدولية»، هندستها الترويكا ذاتها التي شاركت تالياً الولايات المتحدة في مسرحية استئناف الحوار النووي في جنيف، كتغطية على التحضيرات الأميركية لقصف المواقع النووية الرئيسية في إيران. وتضاف إلى ما تقدّم، التصريحات الأوروبية الرسمية السافرة في انحيازها إلى إسرائيل وتأييدها للعدوان، ما أحرق كل جسور الثقة بين الأوروبيين وطهران، ووجّه ضربة قاضية إلى المسار الديبلوماسي الذي اعتمد طوال العقد الأخير.
ويجد ثلاثي لندن – باريس – برلين نفسه في وضع بالغ الحساسية؛ فهو كما الولايات المتحدة وإسرائيل لا يريد رؤية إيران تنضم إلى نادي الدول النووية، ولكنه في الوقت ذاته عاجز عن ردع تل أبيب أو إلزام واشنطن بضبط النفس. وزادت تصريحات غروسي عن «غموض مصير 400 كلغ من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%»، الطين بلّة؛ إذ إن ذلك يفترض أن هذا المخزون، الذي يقترب من درجة التخصيب اللازمة للسلاح النووي (90%)، قد اختفى تحت الأنقاض أو تم تهريبه قبل الضربات – وفقًا لتقارير استخباراتية متقاطعة -.
وفي ظل وقف التعاون مع «الوكالة الدولية» فإن التحقق غير ممكن؛ وحتى لو تم وصل ما انقطع من الجسور مع طهران، فإن البحث عنها بعد دروس التجربة الأخيرة بالنسبة إلى الإيرانيين وفقدان الثقة المتبادل مع الأوروبيين، قد لا يصل إلى نتائج حاسمة، ما يذكّر بحكاية أسلحة الدمار الشامل التي مهدت للغزو الأميركي للعراق عام 2003.
باختصار، تجد إيران نفسها اليوم عند مفترق طرق وجودي بين «عقيدة الصبر الإستراتيجي» و«الخيار الإسرائيلي». فلعقود، اعتمدت على استخدام برنامجها النووي كورقة تفاوض للحصول على رفع العقوبات والتطبيع الجزئي مع الغرب. لكن العدوان الإسرائيلي – الأميركي، وسقوط الخيار الديبلوماسي، غيّرا موازين اللعبة، فيما من المؤكد – وفق الخبراء الغربيين على الأقل – أن أوراق الأصوات الداعية إلى حسم الموقف والانطلاق نحو تصنيع القنبلة، أصبحت أقوى.
وفي حال أعلنت إيران رسمياً حيازتها سلاحاً نووياً، فإن أثر ذلك لن يتوقف على تل أبيب أو واشنطن أو أوروبا، بل قد تُدفع دول أخرى مثل السعودية، وتركيا، وربما مصر، إلى المطالبة بالحق في امتلاك القنبلة، لتنهار منظومة عدم الانتشار النووي في المنطقة تماماً.
وفي ظل هذه التطورات، يبدو أن باريس وبرلين ولندن، المفتقدة فعلياً إلى أدوات التأثير سواء عسكرياً أو ديبلوماسياً، ترزح الآن تحت ضغوط من الأميركيين لإعادة إحياء الخيار الديبلوماسي بأي طريقة، تجنباً لما يرونه الأسوأ، فيما تتراكم الإشارات إلى أن النظام الإيراني قد عبَر خطر اهتزاز ممكناً بفعل العدوان، واستعاد الثقة بقدرته على إدارة الصراع، ولن يقبل بشرب نقيع الخداع الأوروبي مجدداً.
وعند هذا المفصل، فإن طهران ليست مضطرة بعد إلى اتخاذ قرار القنبلة، ولكن استمرار القصف، وسقوط دور «الوكالة الدولية»، وغياب عروض جادة من الغرب، كلها عوامل قد تجعل الكفة تميل ولو تدريجياً لمصلحة التصعيد، في سيناريو يؤرق تل أبيب وواشنطن والعواصم العربية الحليفة في الإقليم.
ولذا، سيجد الأوروبيون أنفسهم – إن هم رغبوا في لعب دور الوسيط استجابة للضغوط الأميركية – مضطرين إلى إراقة ماء الوجه مع الإيرانيين، عبر تقديم عرض حاسم لا يمكن رفضه يعيد إيران إلى طاولة التعاون – مثل إزالة العقوبات بشكل شبه كلي مقابل التخلي عن التكنولوجيا النووية -، فيما كل شيء أقل من ذلك سيرجّح كفة «الخيار الإسرائيلي»، ليتحقق مجدداً في الإقليم بعد ستين عاماً من أجواء حرب 1967، ولكن هذه المرة في طهران.
سعيد محمد