المقالات

أزمة القضاء العراقي: انعكاس لأزمة «دولة المكوّنات»

علاء اللامي

تفاقمت في الأسابيع القليلة الماضية الخلافات بين جناحي السلطة القضائية العراقية؛ مجلس القضاء الأعلى الذي يعدّ الهيئة العليا للسلطة القضائية برئاسة القاضي فائق زيدان، والمحكمة الاتحادية العليا برئاسة القاضي المحال على التقاعد جاسم العميري. ثم جاءت قرارات اجتماع الرئاسات الثلاث يوم الثلاثاء 8 تموز الحالي لتخلط الأوراق وتقدّم حلاً غير متوقع أعاد الأمور إلى المربع الأول عملياً.

استقالات جماعية وإحالات على التقاعد

لقد بلغت هذه الخلافات في السلطة القضائية ذروتها مع الاستقالات الجماعية التي قدمها تسعة قضاة أعضاء في المحكمة الاتحادية العليا يوم 19 حزيران الماضي لأسباب قيل إنها تتعلّق بتفرّد الرئيس العميري بالقرارات وإدارة العمل. وهذا تفسير لا يمكن أخذه على محمل الجد بسهولة، لأن النظام الداخلي للمحكمة يمنع أي نوع من التفرد عملياً وهناك عملية تصويت شفافة على كل صغيرة وكبيرة، أو إنه يجعل التفرد أقرب إلى المحال.

وقيل أيضاً إن الاستقالات تتعلّق بتدخلات وضغوطات حزبية وحكومية داخلية وخارجية من دول الجوار ومن سفارة الاحتلال الأميركي في عمل المحكمة لم يستطع الرئيس مواجهتها بنجاح. وهذا تفسير ممكن وواقعي وخصوصاً في قضية قرار المحكمة الذي قضى بإبطال القرار البرلماني غير الدستوري الخاص باتفاقية خور عبدالله، والطعن الذي تقدّم به رئيسا الحكومة والجمهورية بضغط كويتي وخليجي لإبطال القرار، وتقرّر بعدها وبشكل مفاجئ إحالة الرئيس العميري على التقاعد لأسباب صحية، رغم أنه – كما يقول مقربون منه – لا يشكو من أي مرض أو عارض صحي، بل إن بديله، الرئيس الجديد، القاضي منذر إبراهيم، هو الذي يشكو من ثلاثة أمراض مزمنة كما قيل في الصحافة المحلية والتواصلية.

تُتَّهم المحكمة الاتحادية العليا من قبل الأطراف المتضررة من أحكامها بأن هذه الأحكام خضعت للتسييس، ولم تكن محايدة وعادلة. وحين نمعن النظر في هذه الأحكام نجد أن غالبيتها إيجابية وتخدم المصلحة العامة أو أنها تفْشِل محاولات غير دستورية لانتزاع مكاسب سياسية عبر توافقات بين أحزاب الفساد في الحكم، وفي ظل الانهيار التام والفشل الذي تعاني منه مؤسسات الدولة قاطبة.

لنلق نظرة على بعض الأمثلة من أحكام المحكمة الاتحادية العليا:
-أبطلت المحكمة العليا قرار مجلس النواب بالمصادقة على اتفاقية خور عبدالله المجحف بحقوق العراق في مياهه الإقليمية لسبب دستوري. إذ سجلت المحكمة العليا أن تلك المصادقة لم تتم بغالبية الثلثين كما ينص الدستور في الفقرة رابعاً، من المادة (61)، بل تمت بغالبية نسبية (النصف + واحداً). وقد ثارت ثائرة الكويت حين صدر هذا القرار لأنه قطع عليها طريق السيطرة على الخور ومحيطه وتجريد العراق من حقوقه الأساسية في الممر المائي المهم لتجارته أو التضييق عليها، علماً أن الكويت لم تستعمله قط في كل تاريخها لانعدام حاجتها إليه.ثم بادرت الكويت فحرضت واشنطن ودول الخليج ضد القرار وحثتهم على مقاطعة قمة بغداد الأخيرة في 17 أيار 2025. وهنا، سارع الرئيسان العراقيان السوداني ورشيد إلى التقدّم بدعوى طعن في قرار المحكمة العليا بغية إسقاطه لإرضاء الكويت والتضحية بحقوق العراق.

-قانونا العفو العام ونفط الإقليم: أصدرت المحكمة أمراً ولائياً لإيقاف تنفيذ قانون العفو العام، بدعوى أنه سيشمل خلال التطبيق محكومين بالإرهاب والفساد، فثارت ثائرة المتضررين وتظاهر بعضهم ضد المحكمة ومارس سياسيوهم ضغوطات كبيرة على الإطار التنسيقي (تجمع الأحزاب الشيعية الحاكمة) ونجحت في دفع مجلس القضاء الأعلى برئاسة القاضي فائق زيدان إلى إصدار قرار يبطل الأمر الولائي للمحكمة العليا، ونفذ القانون وتم شمول كبار الفاسدين وفي مقدمتهم المحكومون في قضية «سرقة القرن» ومسؤولون كبار آخرون.

-أصدرت المحكمة الاتحادية العليا قراراً باتاً بإلغاء قانون النفط والغاز الخاص بحكومة إقليم كردستان، وقراراً آخر يمنع تمويل رواتب موظفي الإقليم ما لم تفِ حكومة أربيل بالتزاماتها القانونية وتسلم الكميات المقررة من نفط الإقليم للحكومة الاتحادية. وما تزال حكومة السوداني تلتف على هذا القرار وتتخطاه، فيما تقف وزارة المالية الاتحادية حائرة بين قرارات المحكمة العليا الباتة ومراوغات حكومة السوداني الساعي إلى الحصول على بطاقة الترشيح الكردية للحصول على الولاية الثانية بعد الانتخابات القادمة.

-يتهم البعضُ المحكمةَ الاتحادية بأنها نزعت حق تشكيل الحكومة من الكتلة الفائزة في انتخابات 2010، وأمرت بإعادة فرز الأصوات يدوياً في انتخابات 2018، وهذا الاتهام قابل للنقاش؛ فالمحكمة لم تقم إلا بتفسير الأساس الدستوري الملتبس أصلاً لمسألة الكتلة الأكبر والكتلة الفائزة بأكبر عدد من المقاعد وما بينهما من فروق عملياً، وهذه مسألة أريد لها أن تكون معقدة وهي ترتبط بقانون الانتخابات الملغم وبدستور متخلف ومكوناتي أكثر تناقضاً.

الاتحادية العليا تحاول المستحيل

وبنظرة سريعة نرى أن المحكمة الاتحادية العليا، ومن خلال القرارات والأوامر الولائية والأحكام التي أصدرتها، كانت تحاول أن تحدَّ وتعرقلَ محاولات الأطراف الحاكمة للتجاوز على الدستور، أو إلحاق الضرر الفادح بالمصلحة الوطنية العراقية إرضاء لهذا الطرف السياسي أو ذاك في تحالف إدارة الدولة أو في الخارج، من جهة، ومن أخرى تنساق أحياناً تحت ضغوطات بعض القوى والأطراف المؤثرة لفعل المحظور والمخالف للدستور. أمّا مجلس القضاء الأعلى، فظل قريباً دائماً من الأحزاب الحاكمة ودأب على وضع العِصي في عجلات المحكمة الاتحادية العليا حين تدور ضد مصلحة هذا الطرف أو ذاك وأفلح في إفراغ بعض قراراتها من محتواها.

وهذا له دلالته المهمة؛ أن الذين رحبوا بتغيير رئاسة المحكمة الاتحادية لم يكونوا بتلك الجرأة ليعلنوا ترحيبهم به – باستثناء ثلاثة أشخاص هم النائبان السابقان مشعان الجبوري وفايق الشيخ علي ورجل الأعمال المعروف بعلاقاته المشبوهة فخري كريم- فغالبيتهم سكتت أو احتفلت سراً بالقضاء على ما تبقى من استقلالية للقضاء العراقي.
صحيح أن القاضي العمير لا يختلف عن أعضاء محكمته كثيراً من حيث العلاقة والتخادم مع أحزاب الفساد والطائفية السياسية، ولكنه حاول حل المشكلة بالتي هي أحسن من خلال تدخل الرئاسات الثلاث الجمهورية والحكومة والبرلمان ولكنهم – المشهداني والسوداني ورشيد – رفضوا التدخل لحلحلة الإشكالات حتى عجزوا عن إيجاد حل فقرروا أخيراً العودة إلى نقطة الصفر والاعتراف بقرار الاتحادية ضمناً وسحبوا دعوى الطعن، وأعادوا الكرة إلى مجلس النواب كما سنوضح بعد قليل.

ومثلما لا يستطيع هذا الحكم التوفيق بين المتناقضات والأطماع المتعاكسة التوجهات في أمور إدارة الدولة، لا يمكن لسلطة قضائية قائمة أيضاً على أساس المحاصصة المكوناتية. ولهذا تتأثر هذه السلطة بتغير الحكومات العراقية تأثراً مباشراً، وقد شهدنا أمثلة فاضحة ولا سابق لها في كل أنحاء العالم ومنها تبرئة ضباط مدانين بجرائم قتل متظاهرين سلميين اعترفوا بجريمتهم وحكم عليهم بالمؤبد، وتبرئة ضابط آخر اعترف باغتيال كاتب معروف وحكم عليه بالإعدام وأعاد القضاء التمييزي محاكمته وبرأه من التهم التي اعترف بها هو نفسه وأطلق سراحه بحجة عدم كفاية الأدلة.
وهناك العشرات من الأمثلة عن جرائم خطف واغتيالات وتعذيب لم يحقق في حدوثها، لأن الضحايا ليست لهم سفارة أجنبية أو أحزاب تدافع عنهم، بل هم مواطنون عراقيون عاديون ومتظاهرون سلميون وقفوا وعارضوا نظام حكم الطائفية السياسية، فسجلت جرائم قتلهم وخطفهم وتعذيبهم ضد مجهولين وذهبت دماؤهم هدراً، ولكنها ستبقى تلطخ جباه جلاديهم أياً كانوا.

الرئاسات الثلاث والعودة إلى المربع الأول

إن حكم المحكمة الاتحادية العليا الذي كان منتظراً حتى يوم أمس في دعوى الطعن الرئاسي في قرارها القاضي بإبطال قرار مجلس النواب بالمصادقة على اتفاقية خور عبد الله، كان سيجيب عن هذا السؤال عملياً ويقول للعراقيين إلى أين ستتوجه سفينة المحكمة الاتحادية؛ إلى ميناء الساسة الطامعين بولاية ثانية في الحكم، فتقبل طعنهم وتفرّط بحقوق العراق في الخور، أم إلى ميناء الشعب فترفض الطعن وتطلب رسمياً من رئيس الحكومة إيداع حكمها المُبْطِل لقرار مجلس النواب لدى مجلس الأمن الدولي ليتم تسجيله دولياً بشكل رسمي؟

غير أن تطوراً مهماً حدث يوم أمس الثامن من تموز الجاري بخصوص قضية المحكمة الاتحادية العليا وقرارها بعدم دستورية اتفاقية 42 خور عبدالله، ودعوى الطعن الرئاسية. فقد اجتمعت الرئاسات الثلاث في قصر بغداد، ممثلة برئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، ورئيس الجمهورية عبد اللطيف جمال رشيد، ورئيس مجلس النواب محمود المشهداني، وقدّمت حلاً جديداً تُرمى بموجبه كرة النار الخاصة بخور عبدالله في ساحة مجلس النواب ويسحب الرئيسان السوداني ورشيد دعوى الطعن بقرار الاتحادية من التداول.

من الواضح أن هذا الحل التلفيقي يعني: أولاً، اعترافاً بقرار المحكمة الاتحادية العليا برئيسها السابق جاسم العمير القاضي بعدم دستورية قرار مجلس النواب بالمصادقة على الاتفاقية. وهذا انتصار واضح للقاضي العمير رئيس المحكمة الاتحادية، وإفراغ القرار (بإقصائه وإحالته على التقاعد) من معناه ومضمونه، وينبغي على من اتخذ القرار -لو كان يتمتع بأدنى درجة من النزاهة- أن يتراجع عن قرار إحالته على التقاعد وإعادته إلى منصبة.

ثانياً، هذا الحل يعني أن الرئاسات الثلاث، وخاصة السوداني، يخشون من السقوط انتخابياً إذا استمروا بقضية الطعن بقرار الاتحادية، لأنه يعني التفريط بحقوق العراق في خور عبدالله، فقرروا سحب الدعوى وفضلوا أن يرموا الكرة في ملعب مجلس النواب لتسن أحزاب الفساد قانوناً جديداً يلغي القانون غير الدستوري السابق. وهذه المهمة لتنظيف القرار السابق من اللادستورية بآخر جديد، يمكن أن تتم طبعاً عن طريق الضغوطات والتآمر وتوجيهات من زعماء الكتل النيابية مثلما تمت المصادقة على القانون السابق، ولهذا يمكن أن يتم التعامل مع القرارات الجديدة باتجاه:

1-اعتبار قرار المحكمة الاتحادية نافذ المفعول بموجب القرار الجديد للرئاسات الثلاث، ويجب على رئيس الحكومة محمد شياع السوداني إيداعه لدى الأمم المتحدة فوراً ليتم تسجيله والاعتراف به لإسقاط الاتفاقية 42 خور عبدالله.

2-في حال إصرار رئاسة مجلس النواب على التصويت مجدداً على مصادقة جديدة المطالبة ينبغي الطعن بهذا الإجراء لدى المحكمة الاتحادية لعدم دستورية المصادقة على أي قرار غير دستوري بمضمونه نفسه مرة أخرى.

3-في حال رفض الطعن يمكن للقلة من النواب الوطنيين والاستقلاليين والفاعلين في الإعلام والرأي العام المطالبة بجعل التصويت علنياً لمعرفة من سيصوت بنعم للتفريط بحقوق العراق في الخور وفضحه أمام الشعب العراقي كله ومعرفة من سيصوت ضد الاتفاقية والتحقق من أن النصاب كان كاملاً وجرى وفق الدستور ــــــ المادة 61 رابعاً وبموافقة ثلثي الأعضاء وهذا صعب التحقق جداً، إذ يلزمه أن يصوت بالموافقة على القرار 220 نائباً من مجموع 329، وقلنا صعب جداً، ولكنه لن يكون مستحيلاً باستخدام العصا والجزرة من قبل قادة الكتل النيابية والسلطات التنفيذية…إلخ.

الأقلية الوطنية ومعركة الحقوق

إنّ معركة الدفاع عن حقوق العراق في خور عبدالله وعموم مياهه الإقليمية في الخليج العربي لم تنته تماماً. وما يزال أمام القلة الوطنية داخل مجلس النواب، ومنهم النائب ووزير النقل الأسبق عامر عبد الجبار ومَن معه من شخصيات وطنية واستقلالية من خارج المجلس وفي مقدمتهم: زميله النائب ياسر الحسيني، واللواء المهندس د. جمال إبراهيم الحلبوسي، والنائب السابق والقاضي وائل عبد اللطيف، والنائب سعود الساعدي، الذي صرح اليوم بعد اجتماع الرئاسات وما تمخض عنه قائلاً: «السلطات العراقية تتمسك بإبطال الاتفاقية المذلة، وتؤكد ضرورة التمسك بالمسار التشريعي وسحب طعني رئيسي الجمهورية والوزراء للعدول عن الاتفاقية». وأضاف الساعدي: «ننتظر موقفاً وطنياً ومشرفاً آخر من القضاء العراقي بخصوص طعننا بقرار 266 لعام 2025 الخاص بترسيم الحدود البحرية العراقية الكويتية المشتركة».

أمام هؤلاء ومَن معهم من مواطنين ومثقفين وصانعي الرأي جهد كبير ينبغي دعمه وإسناده والاستمرار به حتى يتحقق الهدف وهو إسقاط الاتفاقية المسماة 42 خور عبدالله لتنظيم الملاحة في الخور نهائياً، وبدء مفاوضات جديدة مع الكويت لحل الإشكالات كافة الخاصة بقرارات الأمم المتحدة المجحفة بحقوق العراق بعيداً من القسر والإجبار والاستقواء بالهيمنة الأميركية وحلف «الناتو» على العراق!

*كاتب عراقي