تثبّت إيران بعد الحرب خياراتها النووية والتسليحية، رافضة الضغوط الغربية، ومؤكدة تمسّكها بدور إقليمي فاعل يرسّخ معادلة الندّية مع واشنطن وتل أبيب.
لم تنجح رهانات العدو على مرحلة ما بعد الحرب على إيران، في ردع الأخيرة عن خياراتها النووية والتسليحية؛ إذ أكّدت مواقف المرشد الأعلى الإيراني، السيد علي الخامنئي، تصميم بلاده على المضيّ في سياساتها الاستراتيجية، وسعيها لأن يُظهر «المستقبل تقدّم المسارَين العسكري والعلمي بوتيرة أسرع من ذي قبل». ولم تبدُ هذه المواقف كردود فعل على الحرب نفسها، بقدر ما اندرجت ضمن رؤية متكاملة لإدارة الصراع وتثبيت دور طهران الإقليمي. كما أن الكلمة التي ألقاها الخامنئي في الذكرى الأربعين لاغتيال عدد من القادة والعلماء الإيرانيين، لم تنتمِ إلى جنس التطمينات الخطابية، بل عكست قناعة عميقة بأن الحرب، وبدلاً من أن تُحدث انكفاءً في القرار الإيراني، رسّخت توجّهاً نحو توسيع نطاق حضور طهران في مسارَين متوازيَين: عسكري وعلمي.
ومنذ وقف العدوان، تشهد المنطقة تحوّلات مثّلت اختباراً لسياسات الردع، وحالة الاشتباك الإقليمي المفتوح، وهو ما لخّص نتائجه الخامنئي بالتأكيد، في مناسبة أخرى، أنه «على الأصدقاء والأعداء أن يعلموا أنّ الشعب الإيراني لن يدخل أيّ ميدان بمظهر الطرف الضعيف، وسواء دخلنا ميدان الدبلوماسية أو الميدان العسكري، فسندخلهما بأيدٍ ملؤها القوّة». وهنا، يتّضح جانب من الفلسفة التي يقوم عليها الخطاب الإيراني الجديد، وعنوانه انتهاج المبادرة المدروسة، والاعتماد على بناء توازن فعّال متحرّك، يستند إلى خبرات سابقة في تحويل الأزمات إلى فرص. وهو توجّه ليس معزولاً عن التجربة التاريخية للجمهورية الإسلامية، التي لطالما تعاملت مع التحديات الخارجية – من الحرب العراقية، إلى العقوبات النووية، وصولاً إلى الضغوط الاقتصادية – بوصفها محطّات لإعادة هيكلة الداخل، وتعزيز الاستقلالية الإستراتيجية، وتطوير بنى داخلية أكثر تماسكاً، سواء في المجال الأمني أو ذاك العلمي. وبهذا المعنى، فإن خطاب الخامنئي يُقرأ في سياق تفعيل المسارات الداخلية عند كل نقطة تصعيد خارجي.
وإذ نُظر إلى الحرب الأخيرة في طهران على أنها محاولة تهدف، في حدّها الأقصى، إلى إسقاط الجمهورية الإسلامية بالرهان على التداعيات التي سترخيها، وفي حدّها الأدنى إلى اختبار مفاعيل الردع، فهي مثّلت فرصة لتقييم مواضع القوّة والضعف. ومن هنا، يمكن تفسير الحديث عن الانتقال من «الصبر الاستراتيجي» إلى «التقدّم تحت النيران»، أي من خيار احتواء الأزمة إلى استثمار لحظة المواجهة في إعادة تنظيم التموضع الإقليمي. وهذا التحوّل لا يعني بالضرورة السعي لتصعيد دائم، بقدر ما يشير إلى محاولة الاستفادة من دروس الحرب في أكثر من اتجاه داخلي وخارجي، بما يتجاوز الحسابات الميدانية الفورية. ويتمثل البعد الداخلي لهذه المحاولة في تأكيد الحاجة إلى التكامل بين المؤسسة العسكرية والمجتمع العلمي، وبين الأمن والتكنولوجيا، في سياق ما يشبه التعبئة الإنتاجية؛ فيما البعد الخارجي يحمل رسائل إلى الخارج – حلفاء وخصوماً – مفادها أن إيران ترى الحرب كمحطّة في صراع متواصل.
هكذا، تتحدّى إيران سياسة الضغط المتراكم الهادفة إلى احتوائها، منطلقةً من اعتقاد بأن الضغوط لم تَعُد كافية لتحقيق أهدافها التقليدية، بل ربّما تُنتج عكس ما هو مرجوّ منها، من حيث تعزيز التماسك الداخلي ورفع منسوب الاعتماد الذاتي لدى الجمهورية الإسلامية. ولعلّ من أبرز ما يمكن استخلاصه من خطاب الخامنئي، في هذا الإطار، هو أنّ إيران باتت ترى نفسها بعد الحرب في موقع تفاوضي جديد، لا يقوم على المطالبة بتخفيف الضغوط، بل على تثبيت معادلة جديدة للندّية السياسية، وهو ما يعيد صياغة السؤال أمام القوى الدولية: هل التعامل مع طهران سيكون من موقع الضبط والاحتواء؟ وهل يمكن الرهان على تحقيق نتائج من خلال ذلك؟ وما هي البدائل المطروحة أمام مؤسسة القرار السياسي والأمني في تل أبيب وواشنطن؟
على أي حال، ينبئ الأداء الإيراني في مرحلة ما بعد الحرب، بوجود رؤية تراكمية عنوانها أن طهران لا تكتفي بتحمّل نتائج الاشتباك، بل تسعى لإعادة تعريفه، وتحديد مساراته المستقبلية. وإذا كانت العقوبات والحروب والأزمات قد هدفت إلى تقويض مشروع الجمهورية الإسلامية، فإن الأخيرة تسير في اتجاه تثبيت هذا المشروع لا تقييده، وتوسيع دوائره لا تقليصها. وهنا، يتضح أن المعركة الحقيقية ليست في الميدان فقط، وإنّما في المعادلات التي تتبلور أيضاً، حيث يَثبت أن إيران لن تكون في موقع الهامش أو المتلقّي، بل الفاعل الإقليمي الذي لا يمكن أحداً تجاهله، وهو ما ستتبلور ملامحه في الأشهر المقبلة، سواء على مستوى مستقبل برنامجَي طهران النووي والتسليحي، أو لناحية دعمها لقوى المقاومة في المنطقة.
علي حيدر