خَسّة الاغتراب الدائم
اجتاحت العولمة تفاصيل حياتنا، في العقدين الأخيرين، وعبثت بكل المفاهيم، مُستهدفة الثقافة والمعرفة، لتضرب معها أسس التعليم الجامعي، الذي يُدفع مضطراً لتكيّف بُناه الأكاديمية، لمواكبة متطلبات السوق. فتمّت سلعنة العلم، عبر تتبّع الأثر الاقتصادي لمنتجات العلم، لتحكّم مسار الإنتاج المعرفي، بعيداً عن رسالة البحث العلمي، أو الحشرية العلمية. هكذا يُلحظ تراجع مستويات الطلاب المعرفية وتنوّع الانحدار إلى مستوى الجهل باللغة العربية قراءة وكتابةً، وتسيّد الثقافة الاستهلاكية السهلة المعلّبة. يصعب معه، عاماً بعد عام، دفع الطلاب لقراءة الكتب، أو البحث العلمي، وحتى أعمال الخيال في مستوى التجريد. فكيف تشرح معها مصطلحات مثل الاغتراب، التي نحتها فلسفياً هيغل، وأخذها فيورباخ باتجاه معاكس، ليعيدها ماركس إلى الأرض.
رأى هيغل في اغتراب الذات انعكاساً لركود الروح المطلق، في دلالته العميقة هو حالة انفصال، تشكّل نقيضاً لجوهر الحرّية. ويصبح صراع الروح بحثاً عن الحرّية حالة حتميّة، تقتضي اندماجاً بالآخر واجتماعاً معه، للعثور على الذات، فهو مسار جدلي تنفي الذات ذاتها اغتراباً بالصراع مع الآخر شرطاً للوجود، تحقيقاً للاعتراف بها وصولاً للحرّية المطلقة، وهذا تجلٍّ لحركة الروح التي تمثّل فعل الفاعلين في التاريخ. وهذا يمثّل تاريخ البشر. في حين رأى ماركس أنّ روح هيغل المطلقة ليست أكثر ولا أقل من الفعل البشري نفسه، أنزل مفهوم الاغتراب، بشكل جدلي هيغلي، من عليائه، من عالم الأفكار المطلقة إلى أرض الواقع المادي، من التأمّل إلى النقد. بنقد ماركس للاقتصاد السياسي، أي نقد النظام الرأسمالي، حلّ الجدل المادي بدلاً من الجدل المثالي الهيغلي، كأداة للنقد الموضوعي، لتحديد الاغتراب كعملية اضطهاد تعكس انحدار العلاقات الاجتماعية، بعد نزع الطابع الاجتماعي عن العمل، أي اغترابه عن البيئة الاجتماعية والسياسية. الاغتراب يختزل العمّال إلى أدوات، والرأسمالية تجرِّد البشرَ من إنسانيّتهم، فيصبح جهد العامل نفسه سلعة، لا يملك أي سلطة أو علاقة به، فيتمّ تحويله من علاقة وتجريده إلى شيء أو تشيّؤ، يعكس بنية المجتمع الطبقي الذي أسّس لتقديس السلع ومعه تاريخ الاغتراب بتحويل نتائج عمل الإنسان إلى سلطة تحكمه كما لو كان ذلك وفق قانون طبيعي أو ما فوق بشري.
فكيف تشرح كل هذا؟ ببساطة وباختصار، يطلّ عليك زياد الرحباني قائلاً لشو كل هالدوران، الاغتراب يعني ما يغنّيه جوزف صقر: «خسة زارعها كنت ما عادت إلي».
غني عم يعطي فقير
أمّا عندما تحاول شرح قانون ميل معدّل الربح الرأسمالي للانخفاض مع الوقت وتطالعك أدبيات تناقش ما تعتبره التغيّر في طبيعة الرأسمالية، لصالح المجتمع، التي تبنّاها ودافع عنها عديد الكتاب حتى من الماركسيين بعد الحرب العالمية الثانية، بدليل تحسّن مستوى حياة العمّال، وارتفاع أجورهم آنذاك، فإنما يخالفون القاعدة الأساسية للرأسمالية التي لا تعطي أصلاً شيئاً، ولكنها بالمقابل تستولي على كل شيء، وإن سمحت بشيء فيكون تحت ضغط العمّال فقط، وسرعان ما تستردّه مضاعفاً. وهذه آلية عمل النظام الرأسمالي الأساسية.
أكثر من وضّح ذلك هو زياد الرحباني، الذي يسهّل الشرح بأغنيته: «شو هالأيام اللي وصلنالا.. قال أنو غني عم يعطي فقير.. كنّو المصاري قشطت لحالا.. عهيدا نتفي وهيدا كتير».
وردّاً على ما تدّعيه الرأسمالية من مكافأة عنصر الإنتاج كل حسب مشاركته، فيكون للرأسمالي الربح، عن مخاطرته، بتشغيله لرأس المال، فيردّ عليه زياد: «طيب كيف هيدا وملايينو ولا مرة شايفينو عرقان؟».
إذاً، يؤكّد إنما هذه عملية استيلاب واضحة لإنتاج العمّال، بعد الاغتراب.
مش لحدا هالفي
وعندما تحاول أن تشرح مفهوم الملكية وتطوره في النظام الرأسمالي، الذي إضافة إلى كل ما اتّبعته الأنظمة والمجتمعات السابقة، من حق الاستعمال، والاستهلاك، والتبادل، والانتفاع وغيره، فإنّ الرأسمالية أدخلت على الملكية حق الإقصاء، حتى من المساحات العامة… تحاول أن تشرح ما تعنيه المشاعات، مع كل هذه الإقصاءات، وعدم شرعيتها القانونية، يمدّك زياد بوصفته للمشاع: «تعي نقعد بالفي.. مش لحدا هالفي».
المثقف العضوي ابن الشعب
أمّا عندما تحاول أن تشرح مفهوم غرامشي للمثقف العضوي، يطل عليك زياد أمامك، ومن حولك، وبكل الاتجاهات، لأنه هو ابن الناس، يشاركها الشوارع، وهذه أكثر من سيفتقده، يشتري المنقوشة، يقف بالدور مثلك، يتحادث مع عيون الناس ووجوههم، يحكي لغتهم، مصطلحاتهم، بهذه البساطة وضّح الفلسفة، وأنطقها كلام الشعب، نزل بها إلى الشارع، يعرفه الجميع، فقد خرج من كل بيت، لكل منا حصة فيه. يظهر كالحقيقة، لا بل إنه الحقيقة، مناضلاً شريفاً، عضوياً هو بالتأكيد كان يسارياً، ستظل تستعين به وبشروحاته وأفكاره، كلما صعب شرح، أو تفكير.
ليس من الضروري أن تكون خبيراً أو ناقداً فنياً كي تفهم موسيقى زياد الرحباني وأعماله، يكفي أنك تحسّها، تردّدها، تحفظها، فهي تخاطبك، تواجهك بواقعك، هذا الواقع اللبناني، الذي جسّده عبر الكوميديا السوداء، وذهب بها عندما أتعبته إلى المسرح العبثي، ومن ثم إلى الكلمة المكتوبة، علّه يشدّ من يجب أن يتحمّل مسؤولية، يحذّره من آتٍ صعب. وجّه رسائله بكل الاتجاهات، عسى أن يلتقطها من يجب عليه ذلك. لم يملّ، وهب حياته بكل دقائقها لهذا البلد، لناسه.
كل عمل قام به هو فعل مقاومة، والمقاومة، قبل كل شيء، هي موقف، انتماء، دفاع عن البلد، عن أرضه، وناسه، عن حريته، عن هويته، عن فكره، عن حرية العصافير فيه. لقّننا دروساً قاسية، دخل الوجدان وحلّ في القلب والذاكرة، لا يستطيع الموت أن يأخذه، فهو لم يغب بل تماهى مع الوطن.
انتصر على السياسيين من كل الاتجاهات، إنه المثقف الفنان العضوي، المتمرّد، المواجه بكل الوسائل، كلاماً، شعراً، مسرحاً وغناء. وحياته بذاتها جبهة اعتراض. راديكالي ثائر. فقيد فلسطين وهي بوصلته. حتى يأسه موقف. لم يستسلم لكنه ذوى تضامناً مع غزة. مسرحياته بيانات سياسية، عرض ونقد ذاتي، وصراخ في وادي الحضارة التافهة التي نعيش.
زينب نصار
أستاذة جامعية