الورق آخر هموم الصحافة العربيّة، أو هكذا يجب أن يكون. الصحافة العربيّة اليوم باتت على مقربة من احتكار وحداني لم تعرفه من قبل. إن حدّة المعركة السعوديّة ــ الإماراتيّة ضد قطر، هي معركة من أجل فرض الرأي الواحد في كل العالم العربي. ولو أن المملكة نجحت ضد قطر، فإنها بذلك تزيل منافسيها في تغطية الأخبار وصناعة الترفيه والفكاهة. وقطر لها حساباتها السياسيّة الخاصّة بها (وهي حسابات تدخل في نطاق الثورة المضادة أيضاً، لكن في جناح منفصل عن الجناح السعودي ــ الإماراتي). والولايات المتحدة لا تمانع في تسعير الصراع بين الخليجيّين، على أن يكون الخراج لها: يحسّنون مواقعهم في الصراع عبر التودّد لواشنطن بإغداق صفقات السلاح ورمي الاستثمارات الأميركيّة في الأسواق الأميركيّة. وقطر والسعوديّة في سباق لمراضاة اللوبي الإسرائيلي. عرف دونالد ترامب كيف يستحصل على مزيد من الطاعة من أنظمة الخليج؛ قد يكون ترامب أفضل خبير في أنظمة الخليج مرَّ في البيت الأبيض. يغضب، فيدفعون أكثر. يغضب أكثر، يدفعون أكثر، ويخدمون إسرائيل أكثر، وهكذا دواليك.
الصحافة العربيّة آخر مَن يعلم عن قضيّة خاشقجي باستثناء إعلام النظام القطري الذي – مثله مثل إعلام ١٤ آذار – يؤيّد الحريّات في حالات ويؤيّد الاستبداد في حالات أخرى. المفارقة أن رفاق خاشقجي وزملاءه وأصدقاءه في ١٤ آذار وفي إعلام النفط التزموا الصمت المطبق. الذين واللواتي نزلوا إلى الساحات بدعوة من السفير السعودي في بيروت يومَ موقعة «جو سوي» الشهيرة غابوا عن الساحات، وتوقّفت ألسنتهم وأصابعهم عن العمل. لا ذكرَ بتاتاً لخاشقجي أو لخبر استهداف صحافي ملأ اسمه كل فضاءات الإعلام العالمي. هذه هي الحريّة الانتقائيّة في عالمنا العربي. الذين يريدون الحريّة في سوريا ويعارضون الاستبداد فيها، لا يقبلون غير الاستبداد في أنظمة الخليج ويناصرون اعتقال المغرّدين وسجن النسويّات وقتل المعارضين. عند هؤلاء الحريّة ليست إلا ذريعة، أو هي هبّة دعائيّة بأمر من هذا الأمير أو ذاك الملك. الحكومات العربيّة لم تجرؤ هي الأخرى على التعليق. وكيف تعلّق هذه الحكومات وفي سجلات معظمها (من سوريا إلى الأردن إلى العراق إلى السعوديّة إلى المغرب إلى ليبيا إلى مصر إلى فلسطين) اعتقال الصحافيّين والصحافيّات وتعذيبهم وقتلهم؟
حظيَ خطف خاشقجي وقتله بتغطية واسعة في الصحافة الغربيّة، وشارك فيها مراسلو الإعلام الغربي ومراسلاته بنشاط حثيث على وسائل التواصل الاجتماعي. وشاركت منظمّات حقوق الإنسان الغربيّة، خصوصاً «هيومن رايتس ووتش» (وهي أسوأ منظمة حقوق إنسان وأكثرها صهيونيّة) في الحملة على السعوديّة في قضيّة خاشقجي. مقتل المئات وجرح الآلاف من الفلسطينيّين على مرّ الأشهر الماضية لم يحظَ بتغطية مماثلة لتغطية قضيّة خاشقجي. لماذا هذا الاهتمام بخاشقجي؟ والإعلام الغربي كان عكس معظم الإعلام العربي الذي أهمل القضيّة في أيّامها الأولى قبل أن يتلقّى الأوامر بعدها بالترويج لنظريّة مؤامرة قطريّة-إخوانيّة-إيرانيّة ذات طابع ذكوري يصبُّ اللائمة على خطيبته «المزعومة»، وفق بعض وسائل الإعلام السعوديّة. وخاشقجي معروف لدى معظم العاملين والعاملات في الإعلام الغربي.
حسب ابن سلمان أن مجازفاته تُحسب له وأن بطشه يزيد منعته في الحكم
الرجل كان حتى أيّامه الأخيرة يصرُّ على أنه ليس منشقّاً وليس معارضاً، وأنه ليس ضد العائلة المالكة، لكن الإعلام الغربي (بيساره ويمينه) جعله بالقوّة رمزاً للمعارضة الشرسة ضد النظام (صحف غربيّة وصفته بـ«المعارض العريق» لآل سعود). وقد عمل خاشجقي في الكثير من وسائل الإعلام السعوديّة وتبوّأ مناصب رسميّة في الإعلام والدعاية (كان ناطقاً باسم السفارة في واشنطن في زمن تركي الفيصل). لم يراهن خاشقجي على الديموقراطيّة بقدر ما راهن على أمراء آل سعود، لكن أمراءه سقطوا، أي إنه دفع ثمن رهان خطأ. كانت له نكبته مع آل سعود مثل ما كان للبرامكة نكبتهم في عصر الرشيد. هو ارتبط بداية بأولاد الملك فيصل: عمل في جريدة «الوطن» (لصاحبها خالد الفيصل)، وكان قريباً من شقيقه تركي عندما رأَسَ جهاز الاستخبارات. وكان عمله الصحافي (في بلد لا يُسمَح للإعلام فيه) أقرب إلى العمل الدعائي الصرف (خلافاً لتصوير كتّاب الصحف الغربيّة الذين لا يقرؤون العربيّة). وحملَ السلاح إلى جانب بن لادن وعملَ مع عبد الله عزّام في باكستان، وكان ذلك مواتياً للحكم السعودي عندما تطابقت سياسة ابن لادن مع سياسة الحكم. وعندما تعارضت سياسة ابن لادن مع سياسة الحكم السعودي، تعارضت سياسة خاشجقي مع ابن لادن. لم يكن داعية ديموقراطيّاً كما يصوّرونه في صحف الغرب؛ كان إخوانيّ الهوى، وكتاباته على تويتر تنضح بالطائفيّة، خصوصاً في ما يتعلّق بالعلويّين (أوجز تصنيفهم بين «القتلة والشبّيحة»). وعندما وصف قطع رؤوس جنود سوريّين من «داعش» بأنه «تكتيك عسكري نفسي فعّال»، ذكّره أحدهم على «تويتر» بأن أمثال «داعش لا يهاجمون العدوّ الإسرائيلي». ردّ عليه خاشقجي قائلاً: «بل قاموا بعمليّات ضد إيران، آخرها أمس بالضاحية الجنوبيّة لبيروت». كان يتحدّث عن سيّارة مفخّخة (ديموقراطيّاً ربما). وتعترف «واشنطن بوست» في مقالة أمس بأن خاشقجي عرض خدماته على بن سلمان (من موقعه في الغربة) كمستشار له. وصديقه شفيق غبرا كتب في «القدس العربي» أن خاشقجي أراد إقناع النظام بأن صوته «لا يهدّده ولا يضرّه بل يساهم إيجابيّاً».
وعن الملك السعودي، كتب خاشقجي في «الوطن» عام ٢٠٠٩: «نحمد الله أن قامَ بأمر بلادنا من يحكمُ بكتابه وسنّة نبيّه، عارفاً بحلاله وحرامه، فتح عقله وقلبه للعلماء والفضلاء والخبراء». كاتب هذه الكلمات تصفه صحف الغرب بالكاتب الليبرالي. لكن ارتباط خاشجقي بالوليد بن طلال ضيّق عليه مساحة التعبير، لأن ابن سلمان لم يكن يحبّذه (كما رأينا، ولم يجرؤ الوليد على التغريد في السؤال عن مصير خاشقجي منذ اختفائه). ولم يكن سببُ إقصاء خاشقجي نقدَ ترامب كما تظن الصحافة الغربيّة. لا تزال بعض صحف آل سعود (مثل «الحياة») تنشر نقداً لترامب. الموضوع هو في حسبانه على خانة منافس لابن سلمان من قلب العائلة المالكة.
كان دور خاشقجي في المعارضة القصيرة متردّداً وانفصاميّاً. لعب دوريْن بلغتيْن: كانت تغريداته ومقالاته في «بوست» ليبراليّة وعامّة وتتحدّث بلغة يستسيغها الإعلام الغربي (أي عشق الديموقراطيّة وعدم تحدّي السياسات الغربيّة إلا بصورة طفيفة). أما في العربيّة، فكان نفسه أكثر إسلاميّةً، وكان مناصراً للقضيّة الفلسطينيّة التي لم يتحدّث فيها باللغة الإنكليزيّة قطُّ أو في مقالاته في «بوست». ولم تثرْ حماسته إلا في الموضوع السوري حيث هتف: «كلّنا ترامب» عندما أمر الأخير بقصف سوريا. ربما أدرك خاشقجي أصول اللعبة: العربي يكون مقبولاً في الغرب، ما التزم حدود أدب الخطاب الغربي من دون تحدّيه أو تحدّي الفرضيات الإعلاميّة الغربيّة عن العرب. هذا قرّبَ الغرب إليه. عرف كيف يكون عربيّاً مقبولاً ومُطيعاً أيضاً. وردّ فعل الإعلام الغربي في مناصرته بقوّة (في غيبته) يعود ليس فقط إلى معرفتهم الوثيقة به على مرّ سنوات، بل ربما تعبيراً عن خذلان ابن سلمان لهم. هذا الإعلام الغربي هو الذي روَّج لابن سلمان ولإصلاحاته التي وافق خاشقجي عليها. كان خاشقجي يقول بالإنكليزيّة: إن ما يفعله بن سلمان صحيح، لكن أسلوبه خطأ (ربما لأنه لم يقرّبه مستشاراً كما أراد).
ليس صحيحاً ما يقوله الإعلام الأميركي (المُنحاز بطريقة باتت تفتقر إلى الحدود الدنيا من المهنيّة أو التجرّد)، أن إهمال ترامب حقوق الإنسان هو الذي أطلق يد محمد بن سلمان كي يرتكب من الجرائم والحماقات ما يشاء. لم تحتل السعوديّة البحرين وتشحن الحرب السوريّة وتفتح أبواب الفتنة (بالاشتراك مع إسرائيل) في لبنان وتشنّ الحرب في اليمن من دون علم إدارة باراك أوباما وموافقته. ليست حقوق الإنسان مُقرّرة سياسات للإمبراطوريّة. لكن هناك ما هو جديد في حكم ترامب، أنه لا يكترث لما يقوم به الحلفاء والوكلاء ما داموا يدفعون له الجزية. كانت الإدارات الأميركيّة تحمي حلفاءها من أسوأ غرائزهم وتحميهم من نفسهم. تنصحهم عندما تشعر بأن سياساتهم وأفعالهم يمكن أن تشكّل أخطاراً على مصلحة النظام، ومصلحتها. هذه الإدارة لا تفعل ذلك. يشعر ابن سلمان، الحاكم الوحيد والأوحد، أن لا قيودَ على ما يفعله، خصوصاً أن الساحة العربيّة باتت خالية من المنافسة. الصراع مع قطر أبعدها عن المنافسة الإقليميّة (خارج نطاق الحيّز الإعلامي) والأنظمة العربيّة الباقية مطيعة أو منصرفة إلى همومها الداخليّة. لكن قلة اكتراث ترامب لحماية أنظمة القهر من غرائزها ليس سيّئاً (لنا) بالضرورة.
وإذا كانت حماقة متعب بن عبد الله في التردّد والإحجام قد حرمته الملك (وأودت به في سجن «ريتز»)، فإن حماقة ابن سلمان تكمن في تسرّعه وتهوّره. هو يدرك أن تسلّق العرش في حياة أبيه محفوف بمخاطر داخل العائلة. والمعارضة الحقيقيّة التي يواجهها ابن سلمان ليست في الشارع أو الجامعات أو الإعلام أو حتى المنافي (مع تنامي الوجود المُعارِض في المنافي). إن المعارضة الحقيقيّة التي يخشاها ابن سلمان هي داخل الأسرة الحاكمة. إن حملة «ريتز» كانت بدافع معاقبة أفراد في العائلة، خصوصاً من أولاد الملوك، أو الطامحين إلى العرش، مثل الأمير الوليد. في «ريتز»، لم يستولِ ابن سلمان فقط على المقدّرات الماليّة لإمبراطوريّة ابن لادن، بل هو استولى على ميراث الملك فهد (أو جزء منه) وعلى ميراث الملك عبد الله (أو جزء منه) وعلى جزء من ميراث أولاد سلطان (من دون أن يسجنهم، لكن إطلالة بندر الذليلة كانت كافية لمعرفة ما حلَّ به في عهد ابن سلمان). وهو استهدف هؤلاء الذين كانوا يعبّرون علناً (مثل عبد العزيز بن فهد) أو سرّاً (مثل الأمير متعب بن عبد الله والوليد بن طلال) عن استيائهم من حكمه، والذين شكّلوا لسنوات مواقع نفوذ. وقد تسرّب في الإعلام الأميركي أن إدارة ترامب هي التي أمدّت ابن سلمان بالمعلومات الاستِماعيّة عن نيات معارضيه في الأسرة وحقيقة مواقفهم.
لكن لماذا الآن؟ ولماذا شكّل خاشجقي هذا الهاجس لحكم ابن سلمان؟ لم يكن خاشقجي أوّل منشق سعودي، وليس أوّل معارض، وهو حتماً ليس أصدح أو أقوى معارض. هذا رجل نفى عن نفسه تهمة المعارضة لآخر يوم وحافظ على التزامه نظام الحكم وحتى التراتبيّة الملكيّة لآخر لحظة، وكان على صلة بشقيق ابن سلمان في السفارة في واشنطن. لكن خاشقجي لم يكن مثل باقي الإعلاميّين السعوديّين. قد يكون الوحيد بينهم الذي نجح في اختراق جدار الإعلام الغربي. وعمله ناطقاً (رسمياً) باسم هذا الأمير أو ذاك عبر السنوات، خصوصاً في سفارة واشنطن في أيّام تركي بن فيصل (الذي كان مقرّباً منه عندما رأس لسنوات المخابرات السعوديّة)، أتاح له التعاطي والتواصل مع نخبة الإعلام الأميركي في العاصمة وفي نيويورك. وهو قدّم خدمات إلى هؤلاء الإعلاميّين (سفر وإجراء مقابلات مع الأمراء)ـ وكان محبوباً منهم (ربّما لأن للصحافيّين الغربيّين العنصريّين انطباع عنصري ضد كل السعوديّين، وهم لذلك قدّروا فيه ما تناقضَ مع انطباعاتهم عن كل رجل سعودي). وكان خاشقجي شديد الاحترام للإعلام الغربي، وقبضَ حريّة الإعلام بسذاجة مفرطة، وصدّق أن الناشر لا يتدخّل في محتويات الصحف في بلاد الغرب، أو أن ليس للصحف هنا خطوط حمراء. وعندما كان المراسلون الغربيّون يبحثون عن وجهة نظر تصلح لنقل موقف الحكومة الرسمي، لكن من دون ذكر مصدر، تطوّع خاشقجي لذلك (فضحه بعد اختفائه الصحافي توماس فريدمان).
كان دور خاشقجي في المعارضة القصيرة متردّداً وانفصاميّاً ولعب دوريْن بلغتيْ
وليس معروفاً ظروف سرعة عمل خاشقجي مع «واشنطن بوست»، لكن الصحافة الأميركيّة ذكرت أنه تعرّف في فترة إقامته القصيرة على النخبة السياسيّة والإعلاميّة، وكان قريباً من مسؤولين في إدارة ترامب. لم يُتح لناقد سعودي من قبل أن يصل إلى مركز الثقل الصحافي. لم تكن مقالات خاشقجي متطرّفة في معارضتها ولا تشبه الخطاب السعودي المعارض الذي تمثّله مضاوي الرشيد أو محمد المسعري، خصوصاً سعد الفقيه الذي يزعج الحكم السعودي إلى درجة أن الأمير نايف نصح الملك في ٢٠٠٨ بالمصالحة مع قطر فقط كي يُمنَع صوت الفقيه على شاشة «الجزيرة» (تمّ له ما أراد واختفت فجأة أصوات المعارضة السعوديّة عن الشاشة التي عُرفت بهم عند انطلاقتها). تنفق الحكومة السعوديّة الكثير على شركات علاقات عامّة ولوبيات في العاصمة واشنطن، لكن هذا الرجل باتَ يخاطب النخبة الحاكمة بلغتها. وأصبح خاشقجي بسرعة ضيفاً على كل مراكز الأبحاث في واشنطن وعلى الجامعات في أرجاء أميركا. تناقض دوره مع الدور الذي رسمه ابن سلمان لنفسه، خصوصاً أنه لم يصل إلى العرش (رسميّاً) بعد.
وحسب ابن سلمان أن تهوّره ومجازفاته تُحسب له وأن بطشه و«حزمه» يزيدان منعته في الحكم ويزيلان من دربه معارضيه. وهو لا يُلام في ذلك؛ تجاهلت كل حكومات الغرب ما كان أشنع من إخفاء خاشقجي (أو قتله). سجّل ابن سلمان سابقة عندما اختطف رئيس حكومة لبنان وأمر بربطه بكرسي وصفعه «مراراً وتكراراً» (حسب رواية ديفيد أغناطيوس في «واشنطن بوست»)، وكان يمكن أن يأمر بقتله لولا تنامي الغضب الشعبي والرسمي في لبنان، وفشل محاولة توريث بهاء الحريري. لكن هذه الجريمة الجديدة لم تكن مثل سابقاتها. هذا ما عناه الصحافي الصهيوني توماس فريدمان (الذي أسال حبراً كثيراً في تلميع صورة الإصلاحي ابن سلمان في «نيويورك تايمز») عندما قال قبل أيّام إن مقتل خاشقجي أهم من أرقام الضحايا في اليمن. هذا رجل بات على معرفة وثيقة بالنخبة، واقترب منهم وأصبح مشاركاً في الحياة السياسيّة في ولاية فرجينيا (حيث أقام) وحضر حفل جمع تبرّعات لمرشح ديموقراطي (مع أنه حمل بطاقة إقامة ولم ينل الجنسيّة بعد). وعدد المهاجرين والمنشقّين عن السعوديّة ازداد في السنوات الأخيرة. ففي السنة الماضية فقط، قبلت الحكومة الأميركيّة ٤٧ طلب لجوء سياسي من سعوديّين وسعوديّات، وعدد المقبولين في طلبات اللجوء أكبر في كندا وفي بلدان أوروبا. وعدد السعوديّين الذين يودّون البقاء خارجه (بين طلاب وأكاديميّين) في ارتفاع، وهذا يقلق ابن سلمان، لأن بوادر تشكل لوبيات معارضة يظهر في الأفق. وفضيحة تجسّس الحكومة السعوديّة (بتقنيّات إسرائيليّة) على المعارض عمر بن عبد العزيز في كندا تظهر المدى الذي يريد فيه ابن سلمان أن يحصي فيه أنفاس المقيمين والمهاجرين. إن الخوف والتخويف عنصر في حكمه، وهو يريده أن يعمّ. وقد التقيتُ في الأشهر الماضية بعدد من الطلاب السعوديّين وببعض مقدّمي طلبات لجوء سياسي في أوروبا وأميركا الشمالية، وتبيّن لي أن عنصر الخوف يدفع عدداً متزايداً من الطلاب والأكاديميّين السعوديّين إلى ترتيب أوضاع خارج المملكة، وأن السعوديّين والسعوديّات باتوا خبراء في تقنيّات التواصل الإلكتروني الحديث كي يتجاوزوا أعين الحكم وآذانه (والكثير منهم متابعون لنصائح سنودن في الرسائل التشفيريّة).
ليس محتماً أن تطيح فضيحة مقتل خاشجقي محمد بن سلمان. لكن حكمه لن يكون كما أراده. باتت أبهى أيّامه وراءه. بلغت سلطة محمد بن سلمان ذروتها قبل أن يصل إلى العرش. أصبح الآن عرضة لابتزاز كبير. في ٢٠١٣، تنحّى أمير قطر عن الحكم بعد أن حصل الحكم السعودي على تسجيلات صوتيّة لمحادثات بين أمير قطر والقذّافي. شعر الأمير بأنّ من مصلحة نظامه أن يتنحّى. هذه الفضيحة أكبر من تلك الفضيحة. كان يمكن رجب طيب أردوغان أن يحصل على ثمن باهظ لو اتفق سرّاً على لفلفة الفضيحة. وتحفُّظ أردوغان في الحديث عن القضيّة في الأيّام الأولى أوحى بذلك. لكن توالي التسربيات الأمنيّة (إلى صحف تركيّة وأميركيّة) عن تورّط أكيد لفريق أمني سعودي على صلة بدوائر عليا في سلطة القرار قضيا بسرعة على فرصة اللفلفة. لن تثور أميركا على النظام السعودي كما يتوقّع بعضهم. وتهديدات بعض أعضاء مجلس الشيوخ لن تنعكس في سياسات. أصبح ابن سلمان ــ ولو حكمَ ــ ضعيفاً في الحكم، وقد تؤدّي الفضيحة إلى ترتيب في داخل عائلة يتنامى داخلها التململ، لا بل المعارضة. إن موقف الأمير أحمد بن عبد العزيز (وهو المرشح الأكثر حظوة لخلافة ابن سلمان لو تنحّى أو أقصيَ عن الحكم) في لندن عندما عبّر عن موقف مستقل عن موقف الحاكم القوي أخرج إلى العلن مواقف معارضة لابن سلمان داخل العائلة. وليس حكم آل سعود جمهورياً كي يمكنه أن يحكم من خلال ملك آخر ضعيف. الملك يصبح صاحب الكلمة بعد المبايعة، والجميع بعده يطيع.
أخطأ الحساب ابن سلمان. شنّ حملة قمع شاملة طاولت الجميع من ليبراليّين وسلفيّين ونسويّين وأعضاء في العائلة المالكة ورجال أعمال. ولم يصدر نقد واحد له في أيٍّ من عواصم الغرب. ظن أن سلطته مطلقة، وأن أمر اغتيال صحافي سعودي سيمرّ كما تمرّ اغتيالات العدوّ الإسرائيلي في دول العالم. لم تصبح السعوديّة ــ ولن تصبح ــ في موقع القلب عند الإدارات الأميركيّة. ولأن الحكم في التاريخ السعودي كان قيادة جماعيّة (داخل نخبة العائلة الحاكمة)، فإن الحذر والسريّة والخشية والمساومة (السطحيّة) طبعَت سياساتها. وعندما انتزع ابن سلمان الحكم بيديه، أزال موانع وروادع للمغامرات «غير المسؤولة» أو «المحسوبة»، طبقاً لوصف ذلك المسؤول السعودي عمليّة خطف جنديّين احتلاليْن في تموّز ٢٠٠٦. لكن يمكن الإدارة الأميركيّة أن تنقذه مقابل ثمن باهظ يدفعه لترامب ولأردوغان. يمكن أن نسمع بسيناريو أن القنصل السعودي تصرّف من عنده، وأن الهدف كان اعتقال خاشقجي لا قتله. التسريبات في الساعات الأخيرة توحي أن زمن اللفلفة لم يفت بعد. هناك مَن يعمل عليه بجدّ في العواصم الثلاث.
*كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)