تُظهر قضية جمال خاشقجي الصراع المتجذّر بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ومجمع الاستخبارات، بعد تسريب لـ«نيويورك تايمز» يفيد بأنّ الاستخبارات الأميركية «مقتنعة» بمسؤولية ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، عن مقتل الصحافي السعودي، في حين لا تزال مؤشرات عدّة تدلّ على أنّ الإدارة الأميركية متّجهة مع الرياض لـ«طبخ» قصّة تخرج ابن سلمان من دائرة الاتّهام، لاعتبارات عدّة، من بينها عدم الإضرار بالاستراتيجية الأميركية ضدّ إيران، بحسب الصحيفة نفسها.
ارتفاع الأصوات المطالبة بتغيير الحكم في السعودية وازدياد الضغوط على واشنطن على خلفية اختفاء خاشقجي في الأيام الماضية، أثار مخاوف لدى البيت الأبيض من «الالتهاء» عن مسألة العقوبات التي ينوي فرضها على إيران في الخامس من الشهر المقبل، ما يجعل اهتمام واشنطن والرياض مصبوباً حالياً على إنهاء قضية خاشقجي إعلامياً، وإعادة التركيز على الملف الإيراني.
ابن سلمان علم بالعملية
قالت «نيويورك تايمز» إن الاستخبارات الأميركية «باتت مقتنعة» بأن ولي العهد السعودي هو المسؤول عن مقتل جمال خاشقجي. ومن بين الأدلة التي تمتلكها الاستخبارات الأميركية، وجود أعضاء في الفريق الأمني لابن سلمان ضمن لائحة الأشخاص المشتبه في تنفيذهم الاغتيال، بالإضافة إلى المكالمات التي اعترضتها أجهزة الاستخبارات وسُمع فيها مسؤولون سعوديون يناقشون خطة محتملة لاعتقال خاشقجي، وفق الصحيفة.
وأشارت الصحيفة إلى أنّ أجهزة الاستخبارات الأميركية والأوروبية لم تجمع بعد، أدلة دامغة بخصوص إصدار ولي العهد أوامر «بقتل» خاشقجي أو اختطافه ونقله إلى السعودية، إلا أنه «مع مرور الوقت، باتت الأدلة من الدرجة الثانية تزداد».
الصحيفة الأميركية أوضحت أنّ مسؤولين تحدّثت إليهم أشاروا إلى أنّ سيطرة ابن سلمان الكاملة على أجهزة الأمن، تجعل من «المستبعد جداً» تنفيذ مثل هذه العملية من دون علمه، لافتةً إلى أنّ الاستخبارات تستعدّ لتقديم تقرير تقييميّ إلى ترامب عن ولي العهد.
من جهتها، نقلت صحيفة «واشنطن بوست» عن المحامي الشخصي لترامب، رودي جولياني، قوله إن كبار المسؤولين في الإدارة الأميركية خلصوا الأسبوع الماضي إلى أن السعودية قامت بتصفية خاشقجي.
اختفاء خاشقجي قد يعرقل حصار إيران
ذكرت «نيويورك تايمز» أن مسؤولي البيت الأبيض يشعرون «بقلق بالغ» من أنّ «قتل جمال خاشقجي، ورواية السعودية المتغيّرة بشأن مصيره، قد يؤديان إلى عرقلة المواجهة مع إيران».
المقالة التي نُشرت بعنوان «اختفاء خاشقجي قد يعرقل خطط ترامب لحصار إيران»، أشارت إلى أنّ التطورات المتعلّقة بقضية الصحافي السعودي، لا سيما الرواية السعودية المتغيرة بشأن مصيره، «قد تعرّض للخطر الخطط الأميركية الرامية إلى تجنيد المساعدة السعودية لتجنّب تعطيل سوق النفط».
وبحسب المقالة، فإن مسؤولين أميركيين قالوا إنّ «هذه المعضلة تأتي في لحظة مشحونة بالنسبة إلى إدارة ترامب، التي يُتوقّع أن تعيد فرض عقوبات قاسية على إيران في الخامس من تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، بهدف قطع جميع صادرات النفط الإيرانيّة».
وأضافت الصحيفة أنّه «إذا سارت هذه الخطّة المنسّقة بعناية، فمن المرجّح أن يشهد السعوديون زيادة كبيرة في عائدات النفط في اللحظة التي يتحدّث فيها الكونغرس عن معاقبة المملكة بسبب قضية خاشقجي».
الصحيفة ذكرت أيضاً أن «ذلك (معاقبة المملكة) هو أحد الأسباب التي دفعت لإرسال وزير الخارجية، مايك بومبيو، إلى الرياض للقاء الملك السعودي، سلمان وابنه محمد».
وقال مسؤولون أميركيون للصحيفة إن «جزءاً من المشكلة هو صورة السعودية التي تبدو كحليف وحشي، بما في ذلك قيادتها حملة عسكرية مميتة في اليمن، تماماً كما كان ترامب وبومبيو يتّهمان إيران بأنها البلطجي في المنطقة».
من جهته، قال رئيس مجلس العلاقات الخارجية، ريتشارد هاس، والذي عمل مع عدد من الرؤساء الجمهوريين: «ليس من السهل إبقاء التركيز على سلوك إيران عندما يقوم السعوديون بأمور رهيبة للصحافيين والمعارضين، وقصف الأطفال في اليمن».
وقالت «نيويورك تايمز» إنه في مقابلات أجرتها هذا الأسبوع مع مسؤولين في إدارة ترامب وخبراء خارجيين، فإن هؤلاء قالوا إن التداعيات المحتملة على خطّة مفصلة لحصار الإيرانيين، قد سيطرت على المناقشات الداخلية الأميركية حول تداعيات ما حدث لخاشقجي.
وقال خبراء في شؤون الشرق الأوسط لـ«نيويورك تايمز» إن هدف ترامب والسعوديين كان واضحاً: «أَخرج الدور السعودي في اختفاء خاشقجي من العناوين الرئيسة للإعلام، وركّز من جديد على الإيرانيين».
توضيحاً لهذه النقطة، قال مدير مركز «كراون» لدراسات الشرق الأوسط في جامعة براندي، غاري سامور، إن ترامب والسعوديين «لديهم حافز قوي لطبخ القصص التي ستخرجنا من هذا الحلّ».
سامور الذي شغل سابقاً منصب مساعد كبير في البيت الأبيض للرئيس باراك أوباما في القضايا النووية، أضاف أنه «لا يمكنهم الذهاب مع قصة أن محمد بن سلمان قد أمر بتسليم خاشقجي. لذلك عليهم أن يجدوا قصّة أخرى ذات مصداقية، وقد تكون القصّة أن عملية التسليم قد تحوّلت إلى سيئة للغاية، أو إلى عملية مارقة».
وقالت «التايمز» إنّ «معاقبة ما يهتم به السعوديون أكثر من غيره، وهو عائدات النفط، ستؤدي إلى تقويض السياسة الأميركية تجاه إيران، وترفع سعر البنزين وزيت التدفئة إلى مستويات أعلى بكثير».
مقال خاشقجي الأخير
في هذا الوقت، نشرت صحيفة «واشنطن بوست»، يوم أمس، ما قالت إنّها آخر مقالة للصحافي السعودي جمال خاشقجي، وقد تحدّث فيها عن الحاجة إلى حرّية الصحافة في العالم العربي. وكتب أنّ هذه الحرّية مُفتقدة إلى حدّ كبير في العالم العربي، معتبراً أن «هذا الوضع يُحتَمل أن لا يتغيّر، للأسف».
المقالة التي حملت عنوان «أشدّ ما يحتاجه الوطن العربي هو حرية التعبير»، ذيّلتها محررة قسم «الآراء العالمية»، كارن عطية، بملاحظة أنها «أُرسلت لها من مترجم ومساعد جمال خاشقجي في اليوم الذي تلا الإبلاغ عن فقدانه بعد دخوله قنصلية بلاده في إسطنبول»، ويرد فيها أنّ «العالم العربي يُواجه نسخته الخاصّة من الستار الحديدي الذي لم يفرضه لاعبون خارجيّون، بل بسبب قوى وطنية تتنازع على السلطة».
عطية اعتبرت أن المقالة تعبر عن التزام خاشقجي، وتطلعه إلى الحرية في العالم العربي، مضيفةً أنها الحرية التي «ضحّى بحياته من أجلها».
وتحدّث الصحافي السعودي في مقالته عن قطر الذي اعتبرها ضمن «عدد قليل من الواحات التي تجسّد روح العالم العربي»، قائلاً: «تُواصل حكومة قطر دعم تغطية الأخبار الدوليّة، خلافاً لجهود جيرانها الهادفة إلى إبقاء الرقابة على المعلومات دعماً للنظام العربي القديم».
كذلك، قال خاشقجي إنه أجرى بحثاً على الإنترنت للنظر في مؤشر حرية الصحافة لعام 2018، والذي نشرته مؤسسة «فريدوم هاوس»، وتوصل إثره إلى إدراك خطير، إذ إن هناك دولة عربية واحدة فقط مصنفة على أنها «حرة»، وهي تونس. ويليها الأردن والمغرب والكويت في المرتبة الثانية بتصنيف «حرة جزئياً»، أما باقي الدول العربية فهي «غير حرة». وأشار إلى أن «العرب يعيشون داخل بلدانهم إما غير مطّلعين أو مضلَّلين. فهم لا يستطيعون علاج مشاكلهم التي يمرون بها يومياً، ناهيك عن مناقشتها في العلن».
ولفت إلى أنّ المنافذ الإعلامية في تونس والكويت تتمتّع بالحرية، «إلا أنّ تركيزها ينصبّ على القضايا المحلية وليس على القضايا التي يواجهها العالم العربي الكبير»، مضيفاً: «حتى لبنان، جوهرة التاج العربي، سقط ضحية استقطاب ونفوذ حزب الله الموالي لإيران».