لا منفذ متروكاً للهروب من إدارة تركية حذقة لملف مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، بات معها النظام السعودي، أكثر فأكثر، أسيراً لأنقرة وروايتها للحادثة. زيارة فاشلة للنائب العام السعودي، عاد بها بمزيد من الحرج والإدانة لحكومته، وبطرود من الحلويات والمكسرات وفق صور نشرها الإعلام التركي. فالسلطات التركية ثبّتت أمس رسمياً رواية تقطيع جثة خاشقجي داخل القنصلية، ببيان النيابة العامة التركية في إسطنبول، مؤكدة أنه قتل خنقاً فور دخوله القنصلية السعودية وفق خطة معدة مسبقاً. نهاية الرواية الرسمية حول طريقة القتل، تدفع باستحقاق السؤالين الأخطر إلى التفاعل أكثر في الساعات المقبلة: أين الجثة؟ ومن المسؤول الأول عن إعطاء الأوامر؟ الأدهى على الرياض كان كشف السلطات التركية عن أن لا إجابات حصلت عليها بشأن «المتعاون المحلي» الذي تسلم جثمان خاشقجي، وهو العنصر الأهم الذي كان من المنتظر كشفه في زيارة النائب العام السعودي سعود المعجب. بل نقل البيان التركي أن المعجب نفى «صدور أي تصريح من قبل الجانب السعودي حول وجود متعاون محلي». لم تكتف أنقرة بذلك، بل أعلنت في البيان الذي بدا تصعيدياً أنه «لم نتوصل إلى نتائج ملموسة من اللقاءات (مع المعجب) رغم كل جهودنا المتسمة بالنيات الحسنة لإظهار الحقيقة»، كذلك لم تحصل النيابة على أجوبة لأسئلة كان من المفترض أن يقدمها الوفد السعودي يوم الثلاثاء. اتهام النيابة التركية للرياض بعدم التعاون، أكد مضمونه مسؤول تركي لوكالة «فرانس برس»، بالقول إن السعوديين «مهتمون خصوصاً بالحصول على الأدلة التي نملكها ضد مرتكبي الجريمة»، مضيفاً: «لم نشعر بأنهم حرصاء على التعاون بصدق في التحقيق». ولعل التصريح الأخير يشي بأن الأوامر للنائب العام السعودي كانت بأخذ المعلومات لا تقديمها، خصوصاً إذا لم يتسلم كل ما بحوزة الأتراك من أدلة.
ثبّتت السلطات التركية رسمياً رواية تقطيع جثة الصحافي
وسواء أراد الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي يدير الملف شخصياً، وفق مصادر تركية، أن يضخم ورقته لابتزاز الرياض بصفقة رابحة، أو يواصل ضرب ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، حتى النهاية، أو الأمرين معاً، فإن المسارات الثلاثة لا تزال معبدة أمامه لمواصلة السير. تطورات أمس، وخروج الأتراك بروايتهم رسمياً، تشي بالاقتراب من مرحلة أشد وطأة على ابن سلمان. فطيّ صفحة التحقيقات الميدانية التي بقي عالقاً منها مصير الجثة، يقرب البحث في مسؤولية ولي العهد الشخصية، ما يضع أردوغان تحت الاختبار الأكثر جدية. في الأثناء، لا يظهر المحققون الأتراك إشارات حول انتهائهم من الكشف عن مصير الجثة، فالسلطات لجأت في عملها إلى كلب متخصص في الكشف عن الجثث يدعى «ميلو»، وفق ما كشفت صحيفة «يني شفق» التركية. بهذه التطورات يدخل المزيد من التعقيد على ملف مصير الجثة، ويصبح عنصر إخفاء السلطات السعودية لمعلوماتها عن أين وكيف جرى التخلص منها عامل ضاغط إضافي على السعودية، يبقي القضية حية لغير مصلحة لفلفة الملف. ويبدو أنه كلما قامت الرياض بخطوة لحرف التحقيق، استحالت الخطوة نفسها دليلاً جديداً على ارتكابها، وهو ما يتقصد الأتراك استثماره بهذا المنحى. هذا ما تكرر مع زيارة النائب العام السعودي لتركيا، التي أعقبتها تصريحات جديدة عالية النبرة لـ«حزب العدالة والتنمية» الحاكم، رفض فيها «التغطية على الجريمة»، وأكد أنْ «لا يمكن تنفيذها دون توجيهات من مناصب عليا»، مجدداً المطالبة بمحاكمة المتهمين في إسطنبول.
ضغوط التحقيق التركي وإعلان عدم التعاون السعودي تعيد توجيه الأصابع باتجاه ملفين: التحقيق الدولي، والعقوبات على السعودية. فالتحقيق «يتقدّم بضغط من تركيا، ولكن أيضاً من المجتمع الدولي» والاعتراف السعودي «غير كاف»، وفق وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، الذي أكد أن بلاده ستتخذ عقوبات «ضد الجاني وليس ضد الدولة» وبالتنسيق مع «شركائنا الأوروبيين». الاتحاد الأوروبي، بدوره، لا يزال ينتظر مساهمة سعودية في إجراء تحقيق «موثوق وشفاف»، بحسب وزيرة خارجية الاتحاد فيديريكا موغيريني. مع كل هذه الدعوات المكرورة، لا تعاون سعودياً في التحقيق، ولا جاني «يقنع» مختلف الجهات الدولية، على رأسهم الولايات المتحدة، التي صارح وزير خارجيتها مايك بومبيو، أمس، السعوديين بأن اغتيال خاشقجي داخل القنصلية في إسطنبول «يُعَدّ خرقاً لأعراف القانون الدولي». تلميح بومبيو بالبعد الدولي للقضية أرفقه بتحذير للرياض من أن «عليهم إعلان الحقائق وأن الوقت ليس لمصلحتهم»، مذكراً بأن «ثمة أسئلة كثيرة لم يُجَب عنها»، فيما أبقى رئيسه دونالد ترامب، على غموض تصريحاته التي ضمّن آخرها اتهاماً للسعوديين بأنهم «خدعوا أنفسهم» في القضية ولم يخدعوه شخصياً، قائلاً «ندرس العديد من الحقائق… وسنرى كيف تتطور الأمور». تصعيد واشنطن لهجتها حيال السعودية، أتت في ظل استمرار حملات الضغط من المشرعين الأميركيين على العلاقات مع السعودية، آخرها فتح ملف التعاون النووي. إذ هدد أعضاء جمهوريون في مجلس الشيوخ، بقيادة السيناتور ماركو روبيو، باستخدام قانون الطاقة الذرية لمنع أي اتفاقات نووية أميركية سعودية، إذا لم يعلق الرئيس دونالد ترامب المحادثات مع الرياض بشأن الاستخدامات السلمية للطاقة النووية، عازين تحركهم إلى مقتل خاشقجي وتصرفات المملكة في اليمن ولبنان.