قبل أشهر من اجتياح الكويت، أعدمَ نظامُ صدّام صحافيّاً (من أصل إيراني) مقيماً في بريطانيا اسمه فرزاد بازفت. اتُّهم بالتجسّس لإسرائيل، فيما كانت الصحافة البريطانيّة تؤكّد أن عمله كان صحافيّاً محضاً، وأنه عندما ألقي القبض عليه كان قد غطّى (سرّاً) خبرَ تفجير في مصنع صواريخ في الحلّة. كما أن بازفت سأل عراقيّين صادفهم، بمن فيهم عسكريّون، عن معلوماتهم عن التفجير وأيضاً انتزع عيّنة من تربة المكان (ماذا كان حلّ بصحافي عربي لو زار موقعاً عسكريّاً أميركيّاً أو بريطانيّاً وانتزع عيّنة من تربة مكانها، يا تُرى؟). الصحافة البريطانيّة ثارت يومها ضد صدّام لكن كان هناك يومذاك مَن طالب بالترّوي للحفاظ على علاقة استراتيجيّة مع صدّام ضد النظام الإيراني. والصحافة الأميركيّة لم تشارك يومئذ في الحملة من أجل بازفت.
الحملة الإعلاميّة الغربيّة عن جمال خاشقجي تكاد تكون فريدة في حدّتها واتساعها وإجماعها. تبيّنَ – حسب زعم الكتّاب والمراسلين – أن خاشقجي كان صديقاً حميماً لمئاتٍ ومئات من الصحافيّين الغربيّين والغربيّات. والسرديّات عنه تكاد تنتزع سنته الأخيرة وتجعلها اختزالاً لحياة طويلة له، في الإعلام والسياسة والدعاية لأمراء آل سعود. لم يعد خاشقجي هو نفسه بل تحوّلَ إلى بطل للحريّات في العالم العربي، وكل سجلّ كتاباته وتغريداته – خصوصاً بالعربيّة – زال من الوجود وتعاطفه مع «الإخوان» وحتى مع ابن لادن الذي بكاه بحرقة وتذكّر جمالَه في رثائه، باتَ دعايةً مغرضة من آل سعود. جون هايدن، مدير «وكالة المخابرات الأميركيّة» السابق، قال إن انضمام خاشقجي إلى «الإخوان» في شبابه كان أمراً طبيعيّاً لأن ذلك الخيار كان وحده المُتاح للشباب العربي «الجدّي». لا شك أن الإعلام الأميركي حوّل قضيّة خاشقجي إلى قضيّة شخصيّة: كيف يجرؤ نظام على اغتيال كاتب في «واشنطن بوست»؟ ألا يعلم أن الحساب عسير عندما يُستهدف صحافي يعمل في وسيلة أميركيّة؟ أما الإعلاميّون الذين قضوا بنيران الجيش الأميركي أو الإسرائيلي، أو نيران وسكاكين أنظمة موالية لأميركا، فهؤلاء لا حسابَ لهم ولا ذكرى للتخليد لأنهم لم يكونوا جزءاً من الإعلام والدعاية الأميركيّة. أميركا استهدفت بفخر مكتب «الجزيرة» في بغداد، وهي درست حتى فكرة قصف مقرّ «الجزيرة» في سنوات ماضية (لم تعد «الجزيرة» بعد تسلّم «الإخوان» لها مزعجة أميركيّاً).
أما الإعلام العربي، فكان كما عهدناً في التاريخ المعاصر: بوقاً للنفط وللغاز فقط. لم يعد هناك إعلام عربيّ. هناك صحف وشاشات غير خاضعة لقطر أو للسعوديّة أو الإمارات لكنها تخضع لهذا النظام أو ذاك، وغالبها إعلام محلّي. هناك إعلام حزبي موالٍ للمحور الإيراني، لكنه ضعيف التأثير ومُوجَّه إلى المحازبين فقط (مثل «المنار» التي تخاطب جمهورها فقط وتكتفي به، لعلّ الفتنة السعوديّة المنشأ تحارب نفسها بنفسها). وهناك إعلام ذو تمويل جديد: سويسرا ودول أوروبيّة باتت تموّل مواقع عربيّة إخباريّة سياسيّة (تسمّي نفسها «مستقلّة» مثل مواقع للنظام القطري تسمّي نفسها «مدنيّة») تنطق بمصطلحات المنظمّات غير الحكوميّة وتتناول القضايا الصغيرة، حتى تبقى الكبيرة، مثل فلسطين، عرضة للدفن تحت كم هائل من الأناشيد عن السلام وحب الآخر والتعايش السلمي. هي تهتم بالقمع في تلك الحالات التي يكون النظام المسؤول عنها غير متحالف مع النظام السعودي أو القطري.
كان خاشقجي يسهّل عمل الصحافيّين الغربيّين ويرتّب مقابلاتهم للأمراء وكانت له علاقات بإسرائيليّين أيضاً
أتت قضيّة خاشقجي لتؤرّخ للسقوط الأكبر لتاريخ الليبراليّة العربيّة. رفاق وزملاء خاشقجي في الإعلام العربي سكتوا عن التغريد المباح ونسوا أن بعضهم نشرَ صوراً لهم ولهنّ معه عبر السنوات. زال خاشقجي من ذاكرة هؤلاء الذين رفعوا الشموع ومشاتل البقدونس في ساحات بيروت، وبإمامة السفير السعودي الأسبق في لبنان، اختفوا عن معركة حريّة الصحافة هذه. أحدث عمليّة اغتيال وتقطيع بالمنشار لصحافي عمل معهم وفي صحفهم – صحف النفط المعادية لمحور المقاومة أو الممانعة – لم تُسجّل في ذاكرة الصحافة الليبراليّة العربيّة. لم يعد هؤلاء يعرفون من هو خاشقجي هذا. الاسم مألوف لكنّه لا يحفر في الذاكرة. انشغلوا بتغطية مؤامرات حزب الله المستمرّة، ولم يلاحظوا اهتمام الإعلام العالمي بالقضيّة الأبرز. البعض تحدّث عن «مأساة» خاشقجي، أما مؤسّسة سمير قصير (التي تنشغل بقضايا الحريّات فقط في سوريا وفي إيران ولا تشمل في تغطيتها أنظمة الخليج لأسباب لا علاقة لها بالتمويل أو الأهواء!)، فذكرت عرَضاً «وفاة» خاشقجي. دخل الرجل إلى القنصليّة السعوديّة في إسطنبول وارتفعت نسبة الكوليسترول في دمه ومات. هذه تحدث. لكن، كيف يمكن لأحد أن يستمع لأحد من صف الحريّة والحريّات هذا عندما يتحدّث يوماً عن الحريّات الصحافيّة؟ يكفي أن تقول له أو لها: أين كنتَ يوم مقتل وتقطيع زميلك في المهنة (وأحياناً في الصحيفة نفسها) جمال خاشقجي؟
طبعاً، كانت هناك محاولات تذاكي عند البعض. الأكثريّة صمتت في صف الكتاب اللبنانيّين واللبنانيّات الذين أفنوا عمراً في صحف الأمراء. لكن هناك من لاحظَ أن الصمتَ نافرٌ في نفاقه فحاول تلافي الإحراج. فارس خشّان مثلاً كتب مقالتيْن في موقع الدعاية الأميركيّة الرسميّة (موقع «الحرّة») لكنه في المرتيْن لامَ النظام السوري والإيراني على قتل خاشقجي وذكّر بماضيهما. البعض الآخر، مثل بولا يعقوبيان يتحدثنَ بالعموميّات عن عمليّة قتل تفصيليّة لخاشقجي ويلمنَ «الأنظمة» عموماً للجريمة (تستعين يعقوبيان بمصطلح «الأنظمة» عندما لا تريد أن تسمّي السعوديّة في مسألة تعود عليها بالدعاية السلبيّة، لكنها تفضّل تسمية «مملكة الخير» في مديح النظام الذي أمر بخطف وقتل وتقطيع خاشجقي بالمنشار). قلّة أخرى تحدّثت بتغريدات مبهمة عن الجريمة محمّلة المسؤوليّة للنظام الذي قتل سليم اللوزي كأن الفاعل هو نفسه.
الإعلام السعودي يمكن تدريسه في صفوف مادة «الإعلام في دول حكم الفرد». تردّدَ الإعلام وتريّثَ ثم روّجَ لنظريّات مؤامرة متناقضة. والغريب أن الإعلام السعودي تخصّصَ في السخرية من نظريّة المؤامرة (فقط إذا كانت تدين أميركا وإسرائيل) لكنه استعانَ بها في نفي تهمة مسؤوليّة السعوديّة عن قتل «المواطن» جمال خاشقجي (ما دلالة إصرار استعمال الخطاب السعودي الرسمي على وصف خاشقجي بـ«المواطن»؟ هل مِن أجل جعل مسؤوليّة الاهتمام بقضيّته مسألة محصورة بالحكومة السعوديّة نفسها التي قتلته أم أن ذلك رسالة للحكومة التركيّة بإهمال التحقيق في القضيّة لأنه ليس مواطنها»). ونظريّة المؤامرة شهدت إحياءً في الأسابيع الماضية في صحافة آل سعود، خصوصاً في «عكاظ» التي تبقى جريدة التسلية في الأزمات. هي قالت إن المؤامرات حقيقيّة وحمّلت إيران وقطر المسؤوليّة عن قتله (كان هذا محور لقاء بعد أيّام فقط من اغتيال خاشقجي بين منى صليبا وموفّق حرب على شاشة «إم.تي.في» ذات التراث السبهاني في الملمّات). وذكّرت «عكاظ» بأن خامنئي هو الذي خطّط لـ١١ أيلول وأن عماد مغنيّة هو الذي درّب الخاطفين في تلك العمليّة (روّجت كل وسائل إعلام لبنان الموالية لقطر والسعوديّة «خبر» أن وثائق المخابرات الأميركيّة من مخبأ ابن لادن خارج إسلام آباد تضمّنت معلومات عن تحالف بين «القاعدة» والنظام الإيراني. لكن الوثائق لم تظهر ذلك أبداً، وقد أصدرت مؤسّسة «أميركا الجديدة» تقريراً مفصّلاً في أيلول الماضي بعنوان «إيران في مجهر القاعدة» من تأليف نيلي لحود وقد دحضت الدراسة المزاعم الإعلاميّة عن وجود دليل عن تحالف، لكن هذه المزاعم لا تزال تملأ الإعلام اللبناني).
لكن الإعلام الموالي لآل سعود رشيق إذ إنه سريع التكيّف مع تغيّر الرواية الرسميّة عن قتل خاشقجي. فبعد أن نشرَ ذلك الإعلام إهانات ذكوريّة مقيتة ضد خطيبة خاشقجي (وقد وصفها، كما جريدة «الشرق» اللبنانيّة لصاحبها عميد الصحافة اللبنانيّة عوني الكعكي، بأنها رجلٌ إخواني مُتخفٍّ بزيّ امرأة)، وتغيّرت اللهجة نحو تركيّا مع مباشرة التواصل بين الحكومتيْن وظهور ملامح صفقة تغطية لمؤامرة الاغتيال، فجأة أصبحت تركيا شقيقة بعد أن كان محمد بن سلمان قد وضعها في خانة «محور الشر». وفيما كانت «قطر» موازية لإيران في شرورها ومتحالفة معها في مؤامراتها في المنطقة ضد السعوديّة، فإن ابن سلمان وعادل الجبير استعملا مصطلحات ديبلوماسيّة لطيفة عن قطر للمرّة الأولى منذ انفجار الخلاف. قد يكون ذلك تسديد دفعة مقدّمة على حساب التسوية مع تركيا.
أما الذي يزور شاشة محطة «الجزيرة» بعد غياب، فيرى كم هي تغيّرت منذ أيام مجدها في التسعينيّات وما بعدها (أي حتى أوّل مصالحة مع النظام السعودي). لقد باتت في أيدٍ إخوانيّة صرفة لكن المشكلة ليست هنا بل في الطابع والمضمون الدعائي لتغطيتها (حتى لا نتحدّث عن تغريدات نافرة لبعض مذيعيها ومذيعاتها) إذ باتت تذكّر بشاشات الأنظمة في الثمانينيّات. وكانت انطلاقة «الجزيرة» جبّارة في حينه لأنها (رغم ولائها السياسي لحكومة قطر) لم تذكّر المشاهدين بشاشات الأنظمة وكانت شيئاً فريداً يجرؤ على تناول قضايا المعارضة العربيّة (خارج قطر طبعاً)، وإن كانت متحفّظة في تناول الاقتصاد السياسي للنفط والغاز. لكن الاحتلال الأميركي للعراق والضغط الشديد من الإدارة الأميركيّة على الحكومة القطريّة جعلها بوقاً حريصاً على احترام اللوبي الصهيوني في واشنطن ومشاعره (بقيت «الجزيرة» الإنكليزيّة أكثر رصانة من شقيقتها العربيّة). وإعلام قطر استمتع بتغطية مستفيضة لفضيحة قتل خاشقجي لعلمه أنها قد تشكّل الضربة القاضية – لو أن التحقيق يُسمح له بالوصول إلى الخواتيم المنطقيّة – لحكم ابن سلمان. لكن حماسة إعلام النظام القطري ضد الحكم السعودي لا تقرّبه البتة من محور الممانعة (الذي يبدو منتظراً عودة قطر الحميدة إليه). على العكس، إعلام النظام القطري، خصوصاً في صحيفة «القدس العربي»، لا يزال منتهجاً سياسة التحريض الطائفي والمذهبي الخبيث. تريد قطر من السعودية أن تضمّها، كما في الماضي، إلى أسرة «مجلس التعاون الخليجي» حتى يكمل أعضاء هذا المجلس مسيرة التطبيع مع العدوّ الإسرائيلي، كي يُدخل السعادة والبهجة إلى قلب الإدارات الأميركيّة.
أما ردّ فعل الإعلام الغربي، فكان لافتاً في تركيزه وحدّته وإصراره. لو أن «واشنطن بوست» (حيث كتب خاشقجي) أو «نيويورك تايمز» معروفتان بحرصهما الشديد على حياة المعارضين العرب، ولو أن الإعلام الغربي برمّته له سجلٌّ من الحساسيّة الإنسانيّة نحو معاناة الشعب العربي، ولو أن الإعلام الغربي البارز لم يكن من أبواق الترويج لابن سلمان، لصدّقَ المرءُ أن دوافعَ التغطية الواسعة للقضيّة هي نبيلة بالفعل. لكنها لا يمكن أن تكون كذلك. وهناك عدة سمات للتغطية تطرح تساؤلات أكثر مما تعطي إجابات. اتضح أن معظم كتّاب الصحف وخبراء مراكز الأبحاث كانوا «أصدقاء» لجمال خاشقجي. طبعاً، إن مفهوم الصداقة في الغرب هو غير ما هو عليه في بلادنا. لا تستغرب هنا أن تشارك الجلوس إلى طاولة في ندوة مع زميل في جامعة ما حول موضوع معيّن إذا هو وصفك بـ«الصديق» في كلامه بعد تلك المناسبة، وإن كان اللقاء حول الطاولة هو الأوّل بينكما. لكن خاشقجي عرف الكثير من مراسلي إعلام الغرب وكان ذلك ليس بسبب معرفتهم بكتاباته بالعربيّة (وهم، مع استثناءات نادرة، يجهلونها) التي كانت موغلة في الدفاع المستميت عن النظام السعودي. إن معرفتهم بخاشقجي كانت بحكم عمله في جهاز الدعاية السعودية وقربه من مراكز القرار، خصوصاً جهاز المخابرات بقيادة الأمير تركي الفيصل الذي كان من أوائل رعاته بين الأمراء.
كان خاشقجي يسهّل عمل الصحافيّين الغربيّين ويرتّب أمور سفرهم ومقابلاتهم للأمراء ويمدّهم بآراء «ولاة الأمر»، كما كان يسمّيهم. وحظوته في مركز الحكم أهّله للعب هذا الدور. وقد كُشف النقاب أخيراً عن علاقات خاشقجي بإسرائيليّين أيضاً (رغم مواقفه المُعلنة – باللغة العربيّة فقط – ضد التطبيع مع العدوّ واحتلال فلسطين)، إذ لم يكن يمانع البتّة في التقاء إسرائيليّين في مؤتمرات أو لقاءات بعيداً عن الأضواء، كما كشفت مراسلة «يديعوت أحرنوت»، سمدار بيري (قالت إنه بشرّها بأن سقوط النظام الإيراني سيكون مفيداً لها وللسعوديّة). لكن رضى الصحافة الغربيّة عن خاشقجي يتعلّق أيضاً بمواقفه السياسيّة المعلنة في سنة معارضته الأخيرة حين كتب دوريّاً في «واشنطن بوست». لم يكن في مقالاته ما يمكن أن يزعج نخبة الإعلام خصوصاً أن كتاباته نمّت عن ثقة مطلقة (وساذجة) باستقلاليّة الإعلام الغربي ومهنيّته. لم يتحدَّ خاشقجي أياً من فرضيّات حكومات وإعلام الغرب عن الشرق الأوسط، وكانت أسطوانته تتراوح بين الثناء على «إصلاحات محمد بن سلمان» والمناشدة بمزيد من الديموقراطيّة على نسق خطاب المنظمّات غير الحكوميّة، من دون الإصرار على شروط وضوابط كي تكون تلك المناشدة الديموقراطيّة مدخلاً إلى تغيير جذري وليس إلى تسلّل أصحاب المليارات وأجندات دول الخليج الثريّة إلى مراكز السلطة في بلادنا.
استقرار حكم آل سعود من أولويّات واشنطن لكن ترامب أطلق العنان لمغامرات ابن سلمان وابن زايد
لكن التبنّي الكبير لخاشقجي بعد وفاته من قبل إعلام أميركا السائد يمكن أن يحمل في طيّاته أيضاً أجندة غير إعلاميّة. لقد تحوّلت «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» إلى إذاعة دولة المخابرات الأميركيّة في عهد دونالد ترامب. وهذه الدولة الخفيّة لا تنفكّ تسرّب للصحافة يوميّاً ما يمكن أن يحرج أو يفضح أو يضرّ ترامب. هذه العلاقة ليست مستجدّة بين الإعلام وأجهزة المخابرات هنا لكنها باتت علاقة لا تمرّ عبر السلطة التنفيذيّة لأن الأجهزة تلك في حالة تمرّد شبه معلن. وقد يكون هذا الضرب على طبول إحراج آل سعود، ومحمد بن سلمان شخصيّاً، معبّراً عن إلحاح في الدولة الخفيّة لترتيب شؤون بيت آل سعود بصورة تضمن استمراره. إن ضيق أجهزة المخابرات وحتى وزارة الخارجيّة ونخبة العلاقات الخارجيّة خارج الحكومة يعكس قلقاً متنامياً من أثر مغامرات ابن سلمان على ديمومة حكم آل سعود (هذه الديمومة هي من المصالح الحيويّة لأميركا ولإسرائيل على حدٍّ سواء). وأجهزة المخابرات الأميركيّة (بما فيها مكتب التحقيقات الفيدرالي) كانت قد راهنت على وصول محمد بن نايف (الذي تعرفه حق المعرفة وتثق به لولائه وإذعانه ووحشيّته عند الضرورة) إلى العرش، وهي التي سرّبت على الأرجح إلى «نيويورك تايمز» أوّل تقرير عن أن إقصاء ابن نايف عن ولاية العرش لم تكن نتيجة عمليّة «تغيير سلس في الحكم»، على ما أطنبت وسائل الإعلام العربيّة في حينه.
الحكومة الأميركيّة (أو بعض أجهزتها) لم ترتح لترك الأمور في الشرق الأوسط لبعض الطغاة للتصرّف على هواهم. لم يبدأ هذا في عهد ترامب، بل في عهد باراك أوباما عندما تصارعت قطر والإمارات في ليبيا، وفي غيرها عندما تناحرت أنظمة الخليج لكسب النفوذ ولفرض أو لإقصاء «الإخوان» عن الحكم. واستقرار حكم آل سعود من أولويّات الحكومات الأميركيّة لكن ترامب لم يكن يدري أنه في إهماله لفرض أجندة أميركيّة خاصّة ومحدّدة (حتى أنه لم يرسل بعد سفيراً إلى السعوديّة أو تركيا) أطلق العنان لمغامرات ابن سلمان وابن زايد. الإدارات الأميركيّة سابقاً لم تكن تسمح بذلك، وذلك – جزئيّاً – حفاظاً على تلك الأنظمة من نفسها ومن طيشها. قد تكون الحملة الإعلاميّة عن خاشقجي مدبّرة من أجهزة الحاكم المتفلّتة من يدي ترامب. ومشاركة ديفيد إغناطيوس شخصيّاً في الحملة (وهو المعروف بقربه من أجهزة المخابرات الأميركيّة ومن أجهزتها الحليفة في الأردن والسعوديّة بصورة خاصّة) يوحي أن الحملة ليست عفويّة وليست بنت ساعتها.
وقد شاركت منظمّات حقوق الإنسان الغربيّة بحماسة في الحملة لرفع اسم خاشقجي. هناك الآلاف من الضحايا الأبرياء في كل السجون العربيّة، وهناك الآلاف من ضحايا القتل من قبل الاحتلال الإسرائيلي ومن الأنظمة العربيّة، لكن لم يحظَ أي منهم بهذا التعاطف. يموت أسبوعيّاً في احتجاجات غزّة العشرات ويُجرَح المئات، ويمرّ الخبر عابراً في أسفل صفحة خلفيّة في إعلام أميركا (وحتى في بعض الإعلام العربي). منظمّة «هيومن رايتس ووتش» (الأكثر صهيونيّة والأكثر قرباً من أجندة الاستعمار الغربي) لم تتوقّف عن التغريد وإصدار البيانات عن خاشقجي. ووصفته مديرة الشرق الأوسط فيها بـ«الصديق العزيز». هل يمكن لأحدكم أن يتصوّر أن يجرؤ صحافي غربي أو مسؤول في منظمّة حقوق إنسان غربيّة أن يجاهر بصداقة مع صحافي يعمل في إعلام السلطة في سوريا أو إيران؟ هل يمكن لناطق باسم سفارة إيرانيّة أو سوريّة في العالم أن يكون مقرّباً من نخبة الإعلام وحقوق الإنسان في الغرب (كان خاشقجي ناطقاً باسم سفارة السعوديّة في واشنطن عندما تقرّب من نخبة الإعلام هنا)؟ لكن هذا الأسبوع فضح علي شهابي (وهو مؤسّس فرع للوبي سعودي باسم «مؤسّسة العربيّة»، وكان صديق مقاعد الدراسة وكانت خلافاتنا السياسيّة ناشبة في سنوات الصبا) منظمّة «هيومن رايتس ووتش» بأنها قامت بحملة جمع تبرّعات في السعوديّة. هل يمكن تصوّر جولة لجمع التبرّعات من منظمّات حقوق إنسان غربيّة في إيران أو سوريا؟ الحملة فضحت من دون قصد معايير مزدوجة في حوزة إعلام الغرب ومنظمّات حقوق الإنسان فيه في التعاطي مع الاستبداد عندما يكون متحالفاً مع دول الغرب والاستبداد عندما لا يكون متحالفاً مع دول الغرب. وقد طالبت «هيومن رايتس ووتش» بإطلاق اسم خاشقجي على الشوارع التي توجد فيها قنصليّات سعوديّة حول العالم. كل الضحايا العرب من الرجال والنساء من الذين ماتوا في نضال شجاع ضد الظلم ليس هناك من حملة باسمهم في الغرب إو لإطلاق أسمائهم على شوارع.
قضيّة خاشقجي لم تعد تتعلّق به. باتت أكبر من ذلك بكثير. باتت مفصلاً في العلاقة الأميركيّة – السعوديّة. وقبل أيّام أصدر وزيرا الخارجيّة والدفاع الأميركيّان أمراً بإنهاء «عاصفة الحزم». يمكن الجزم بأن محمد بن سلمان سيطيع الأمر هذه المرّة من دون نقاش. لم تعد العلاقة كما في السابق. بات ابن سلمان في موقع ضعيف للغاية إزاء امبراطوريّة تجرّأ على المغامرة في المنطقة من دون إذنها. بهذا المعنى، إن قضيّة خاشقجي ستضرّ النظام السعودي، وحكم ابن سلمان شخصيّاً، وستفيد الإدارة الأميركيّة حتى لو كانت عقوباتها ضد السعوديّة محصورة بمنع أعضاء فريق الاغتيال السعودي من زيارة «ديزني لاند» مستقبلاً.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)