حاول إيمانويل ماكرون أن يظهر أمس متماسكاً، يعترف بما عليه وينبش من الماضي ما يُبرّر سياساته. في 15 دقيقة من خطابه لـ«الأمة»، قدّم الرئيس المأزوم سلسلة «تنازلات» اقتصادية يعتقد فريقه أنها مفتاح احتواء تظاهرات «السترات الصفراء». الرئيس الذي تكلّم عن «جذور للأزمة عمرها 40 عاماً»، لم يحضر في «إصلاحاته» الموعودة حلولاً جذرية وواضحة تلبّي مطالب الشارع المتصاعدة. فرنسا ظهرت أمس أنها أمام أزمة بنيوية تمسّ كل النظام بتفرعاته. أزمة يعتقد رئيسها أن التنازلات تكمن في صرف بعض من المال لموظفين لا في «دولة رفاه» تتآكل تقديماتها، وفي نموذج «جديد» يُقاتل عدداً ضخماً من الجمهور والساسة المعارضين لإسقاطه.
انتظر إيمانويل ماكرون شهراً كاملاً بعد «احتلال» البلاد من المتظاهرين لكي يُدليَ بسلسلة اعترافات و«تنازلات». أربع تظاهرات (كل سبت) نظّمتها جماعة «السترات الصفراء» بدت كأنها أيقظت شيئاً في رجل يشعر أن الأمور تفلت من يديه رغم سيطرته المطلقة على الحكومة والبرلمان. سيطرة جعلته «بعيداً» عن الشارع. أمس، أقرّ بأنه «حاول أن يعطي انطباعاً» أن غضب المتظاهرين هو «آخر همومه»، وأنه يتحمّل «حصتي من المسؤولية»، متفهّماً «الغضب» و«المحنة» في الشارع. منذ الانتخابات الرئاسية وبعدها البرلمانية، تعامل ماكرون مع النتائج كبطاقة عبور نحو تطبيق «نموذجه» السياسي والاقتصادي والاجتماعي. إلى جانب البُعد الشخصي لرئيس بدا منفصلاً عن الجمهور، جاء في خطابه ذي الخمس عشرة دقيقة رزمة إجراءات يُعوّل فريقه على أن تُنفّس الشارع. لكن ردود كل من زعيم كتلة حزب «فرنسا المتمردة» اليساري جان لوك ميلانشون، ورئيسة حزب «التجمع الوطني» اليميني مارين لوبن تشي أن الأمور أبعد وأصعب من «حال طوارئ اقتصادية واجتماعية» أعلنها الرئيس.
«عندما ينطلق العنف، تتوقف الحرية»، هذه الجملة التي استخدمها في خطابه «الإصلاحي» المنتظر أمس، تعبّر عن تصوره لـ«الحل» المفترض للأزمة التي تعصف ببلاده. الرئيس المأزوم أصرّ على أنه يحمل تركة ثقيلة هي المسؤولة بشكل مباشر عما تعانيه بلاده، ليعود ويلوم عجزه عن تقديم حلول منذ توليه مفاتيح «الإليزيه»، في تموز/ يوليو 2017. ماكرون الذي أراد الإيحاء بأنه على قدر مسؤولية ما يجري في الشارع، أعلن إذاً ما سماها «حالة طوارئ اجتماعية واقتصادية». وبالرغم من أنه أقرّ بأنّه يتحمّل جزءاً من المسؤولية، أصرّ على التذكير بأنّ جذور الأزمة قديمة عمرها 40 عاماً. ومن ضمن «الحلول» التي اقترحها لـ«احتواء» الاحتجاجات، إعلانه زيادة طفيفة للحدّ الأدنى للأجور (100 يورو شهرياً) اعتباراً من العام المقبل، بالإضافة إلى إلغاء ضريبة التقاعد. لكنّه رفض إعادة فرض الضريبة على الثروة، أحد مطالب المحتجّين الأساسية. وقال: «سنردّ على الوضع الاقتصادي والاجتماعي الملحّ بإجراءات قوية من خلال خفض الضرائب بشكل أسرع، ومن خلال استمرار السيطرة على إنفاقنا، ولكن دون التراجع عن سياستنا».
قبل خطابه المنتظر، تشاور، طوال ساعات، في قصر «الإليزيه» مع 37 شخصية، بينها رئيس الوزراء إدوار فيليب، و12 من أعضاء الحكومة ورؤساء النقابات الرئيسية ومنظمات أصحاب العمل، إضافة إلى رئيسي الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ. وفيما كان يُنتظر أن يقدّم اقتراحات وردوداً مفهومة وواضحة على مطالب حركة «السترات الصفراء» بعد 48 ساعة من نهاية اليوم الرابع لتحركهم، لم يأتِ الخطاب على مستوى المطالب التي نادى بها المحتجّون.
النقاط الرئيسية التي حاول الزجّ بها في خطاب «التهدئة» مع المحتجين، ركّزت بداية على فكرة استنكار العنف والشغب، وعدم تبريره بالغضب، إلى جانب التلميح إلى جذور الأزمة التي تتطلب إصلاحاً عميقاً للدولة الفرنسية، على حد قوله.
رد الفعل الاقتصادي المباشر كان عبر زيادة الحد الأدنى للدخل، بمقدار 100 يورو في الشهر، اعتباراً من 2019، من من دون أن تتحمل الشركات أي كلفة إضافية، وتحييد ساعات العمل الإضافية «في الفترة المقبلة» عن مقصّ الضرائب. كذلك فقد وعد بإدخال حوافز مالية وتدابير عاجلة لمساعدة من تقلّ رواتبهم عن 2000 يورو وإلغاء زيادة الضرائب على بدلات تقاعدهم، مشيراً بتعبير عام إلى أن «من يحققون الأرباح عليهم دفع الضرائب المناسبة»، من دون إيضاح آلية ذلك. وأتبع ذلك بدعوة من يستطيعون من أصحاب العمل إلى «رصد مكافأة لنهاية العام» على أن تعفى من الضرائب.
ميلانشون: ما أعلنه ماكرون سيُدفَع من أموال المواطنين لا من أموال الأغنياء
ومع تعهده بإجراء العديد من المشاورات لاستكمال حلحلة هذه الأزمة، لمّح إلى إمكانية إجراء إصلاح في التمثيل السياسي، على اعتبار أن فرنسا «تمر بمرحلة تاريخية». غير أنه أكد رفضه «التساهل مع مثيري الشغب ومرتكبي أعمال العنف». وتبقى النقطة التي قد تسهم في استمرار غضب واحتجاج «السترات الصفراء» هي إصرار ماكرون على قرار إلغاء الضريبة على المواطنين الأكثر ثراءً، والذي يعتبر المحتجون إلغاءه على رأس المطالب التي يتطلعون إلى تحقيقها، باعتباره قراراً جائراً بحق الفقراء وضعاف ومتوسطي الدخل. وكان تبرير الرئيس لموقفه مستنداً إلى أن فرض هذه الضريبة في الماضي لم يغيّر من حال البلاد في شيء.
وجاء أبرز ردود الفعل السريعة على «إصلاحات» ماكرون من جان لوك ميلانشون الذي اعتبر في تغريدة عبر «تويتر»: «ظنّ الرئيس أنّ توزيع النقود سيكفي لتهدئة تمرّد المواطنين المستمر»، ليعود ويضيف في تغريدة ثانية: «كلّ ما أعلنه ماكرون سيُدفَع من أموال المواطنين، لا من أموال الأغنياء… ليس هناك في الخطاب ما يخصّ العاطلين من العمل، ولا الموظفين بدوام جزئي، ولا المتقاعدين ولا الطلّاب». وبدورها، غرّدت مارين لوبن قائلة إنه «أمام التحدّي، يتخلّى ماكرون عن بعض أخطائه الضريبية، لكنه يرفض الاعتراف بأنّ النموذج الذي يمثّله هو المرفوض».
من جهته، رأى أستاذ المعلومات والاتصالات في جامعة باريس الثانية، أرنود مرسييه، في تعليق نقلته صحيفة «لو باريسيان»، أن ماكرون «لا يزال يواجه مشكلة في الاعتراف بأخطائه». ولفت إلى أنه «لم يستطع على الفور تلبية بعض المطالب الأساسية، مثل الخفض الحقيقي في الضرائب»، مشككاً في تأثير تلك الإجراءات في اقتناعات «السترات الصفراء».
احتجاجات طلابية تشلّ 120 ثانوية
أقدم طلاب نحو 120 ثانوية فرنسية، أمس، على تعطيل العملية الدراسية احتجاجاً على سياسات الرئيس إيمانويل ماكرون التعليمية. ووفق وزارة التربية، فقد أدّت الاحتجاجات إلى تعطيل الدراسة كلياً أو جزئياً في تلك المدارس، فيما دعت نقابات طلابية إلى زيادة وتيرة التظاهرات في عدة مدن اليوم الثلاثاء.
بدورهم، أعلن طلاب جامعة باريس ـــ نانتير أنهم سيقومون باحتجاج لتعطيل الدراسة في الجامعة حتى يوم الخميس. ومنذ الأسبوع الماضي، يحتج الطلاب على سياسات ماكرون بشأن التعليم، لا سيما النظام الجديد للدخول إلى الجامعات الذي دخل حيّز التطبيق العام الجاري. والخميس الماضي، أوقفت الشرطة أكثر من 700 طالب ثانوي على خلفية أحداث شغب خلال التظاهرات في عموم البلاد، فضلاً عن توقيف 32 طالباً يوم الأربعاء الماضي.
)الأناضول)