في مقهى قاهري منزوٍ بشارع جانبي متفرع من الموسكي، التقى شابان مجهولان لدقائق معدودة قبل أن ينصرف كل منهما في طريق. أحدهما اسمه الحركي مسعود مزياني وعرفه العالم بعد ذلك باسمه الحقيقي: أحمد بن بيللا، وقد جاء إلى القاهرة في اليوم نفسه طلباً للدعم العسكري والسياسي والإعلامي باسم مجموعة من الشبان الجزائريين ينوون إطلاق ثورة مسلّحة لتحرير بلادهم من الاستعمار الفرنسي، والآخر يدرس في جامعة الأزهر اسمه محمد بوخروبة وعرفه العالم باسمه الحركي هواري بومدين. كان ذلك يوم 25 تشرين الأول / أكتوبر من عام 1953.
الاثنان تعاقبا على رئاسة جزائر ما بعد الاستقلال، ربطتهما علاقة خاصة، حيث حسم بومدين من موقعه على رأس قوات “جيش التحرير الوطني” عند دخولها العاصمة سؤال السلطة في تموز/ يوليو 1962 لصالح صديقه القديم، قبل أن ينقلب عليه في ١٩ حزيران/ يونيو ١٩٦٥ ويودعه سجناً طويلاً. على فراش مرضه العضال، وهو يواجه الموت، كان يذكر اسمه بين غيبوبة وأخرى: “سي أحمد”.. كأن وصيته عند النزع الأخير في عام (١٩٧٨) الإفراج عن قائد الثورة وأكبر رموزها، بحسب روايات متواترة.
ربما تأثراً بتلك الروايات لم يتطرّق بن بيللا مرة واحدة على مدى أكثر من ثلاثة عقود إلى خلافه مع بو مدين وقصة الانقلاب عليه. بحسب ما استمعت إلى أحمد سعيد، مؤسس “صوت العرب”، وهو يستعيد وقائع قديمة لم تكن تغادر ذاكرته، فإن مدير مكتب الرئيس بن بيللا طالبه وألحّ عليه أن يحذّره كصديق مقرّب من احتمال انقلاب عسكري ضده، فهو لا يريد أن يستمع من معاونيه لأي تحذير من هذا النوع. على مائدة غداء في شرفة “فيللا جولي”، حيث سكن الرئيس، جلسا معاً يتناقشان في أمور عامة وخاصة. فجأة طرح أحمد سعيد ما لديه من معلومات استقاها من معاوني الرئيس. استنكر بن بيللا تواتر الشكوك في بومدين، وخبط بيديه على مائدة الطعام محتجاً، فتناثر الحساء فوقها، وجرى ما جرى.
كان الانقلاب على بن بيللا تعبيراً عن الأوضاع السياسية القلقة، التي أعقبت انتصار ثورة المليون والنصف مليون شهيد، وعن عمق التناقضات في بنية الثورة نفسها، التي شهدت تصفيات جسدية لبعض قادتها الكبار للإيقاع بين المكوّنين العربي والأمازيغي بفعل الاستعمار الفرنسي أحياناً، أو للتخلص من المنافسين السياسيين أحياناً أخرى. كان انقلاب بومدين ذروة التراجيديا في تناقضات الثورة الجزائرية، غير أنه نجح في الحفاظ على وهجها التحرري وأدوارها في القارة الأفريقية.
كان المجيء ببوتفليقه رئيساً تعبيراً عن توافقات لتخفيف الضجر العام من تفشّي العنف والفساد
بمضي الوقت تآكلت الشرعية الثورية وخفتت في الذاكرة مشاهد تضحياتها الكبرى وتكرّست طبقة جديدة على قدر كبير من التغول والفساد، أفرغت الحياة السياسية من حيويتها حتى أصبح حزب “جبهة التحرير الوطني” ركاماً متهالكاً. خسر حزب الثورة أول انتخابات نيابية عامة أمام “جبهة الإنقاذ الإسلامية” عام 1991، وأفضت الانعكاسات، على خلفية تصريحات علي بلحاج الرجل القوي في تلك الجبهة التي توعد فيها بانقلاب كامل على مقومات الدولة المدنية، إلى انقلاب عسكري ثان أنهى عصر الرئيس الثالث الشاذلي بن جديد وألغى العملية السياسية كلها، ودخلت الجزائر في أسوأ سنواتها وأكثرها دموية، تلك الفترة التي يطلق عليها “العشرية السوداء”.
كان صعود العقيد الشاذلي بن جديد إلى السلطة في عام 1979 عقب وفاة الرئيس بومدين تعبيراً عن موازين القوى التي تحكم الجزائر من دون أدنى اعتبار لإرادة “جبهة التحرير الوطني”، حيث كان يمثل الجيش في المكتب السياسي للحزب الحاكم، وقد جرى فرضه بحقائق القوة. جرى استبعاد رجلان، الأول – صالح يحياوي وكان يحظى بشعبية كبيرة بين أعضاء «جبهة التحرير الوطني»، الذين هتفوا باسمه عالياً ومدوّياً أثناء أعمال مؤتمره لاختيار رئيس جديد، وقد تعرّض تالياً للتنكيل السياسي.
والثاني – عبد العزيز بوتفليقة، ولم يكن له في ذلك الوقت أيّ شعبية داخل البنية الحزبية، رغم أنه كان أقرب مساعدي الرئيس الراحل وأدار لسنوات طويلة ملف الدبلوماسية الجزائرية، وقد اتّهم رسمياً في ذمته المالية قبل إعادة اعتباره بعفو من الرئيس الشاذلي بن جديد والمجيء به بعد سنوات طويلة في عام 1999 إلى مقعد الرئيس بدعم من المؤسسة التي استبعدته سابقاً. جيء قبله بمحمد بوضياف، أحد القادة التاريخيين للثورة الجزائرية، من مقر لجوئه السياسي في المغرب، رئيساً للبلاد بعد الانقلاب الثاني التي أفضت نتائجه إلى إجبار الرئيس الشاذلي على الاستقالة، وقد كانت شخصيته قوية وعلى قدر كبير من استقلالية القرار، بما يرجّح فرضية أنه قد جرى التخلص منه بالاغتيال السياسي. وهكذا جيء برؤساء آخرين قبل بوتفليقة، وأُبعدوا واحداً تلو آخر، حتى استقرت الرئاسة عنده.
لسنوات طويلة أمسك اللواء خالد نزار بمقاليد السلطة من خلف الستار وأمامه، لكنه عزف عن تولي رئاسة الجمهورية واكتفى بدور صانع الرؤساء، غير أن هذا الدور استنزف طاقته وقدرته على البقاء، حتى بدت صراعات الجنرالات ملمحاً رئيسياً لحياة أخذت ينضب ما تبقى فيها من حيوية، كما استشرى الفساد على نحو غير محتمل في بلد يعاني اقتصادياً، رغم وفرة موارده النفطية. كان المجيء ببوتفليقه رئيساً تعبيراً عن توافقات لتخفيف الضجر العام من تفشّي العنف والفساد.. فهو وجه سياسي معروف دولياً ويتمتع بحنكة دبلوماسية توفر له القدرة على المبادرة للتوصل إلى وئام وطني تحتاج إليه الجزائر، وقد نجح في هذه المهمة، كما أضفى حضوره الرئاسي شيئاً من الهيبة، لكن من دون مساس بشبكة المصالح والنفوذ.
تمدّدت الأزمة في صورة جديدة مع رئيس جديد، حتى انفجر صراع مكتوم على وراثته منذ عام 2013، عندما أصيب بجلطة دماغية لم يتمكن بعدها من أن يمارس مهامه، وبدا في وضع عاجز على كرسي متحرك. بدا الأمر مهيناً للكبرياء الجزائري أن يكون الرئيس المريض محض واجهة لآخرين في شبكات القوة والمصالح والنفوذ، وأن تمدد رئاسته لـ”عهدة خامسة” فيما هو لا يستطيع أن يخاطب شعبه. القضية ليست عبد العزيز بوتفليقة بقدر ما هي استنفاد القنوات السياسية والاجتماعية بصورة منذرة طاقة الجزائريين على التحمّل.
مشكلة القوى المهيمنة على السلطة أنها تحاول في الوقت بدل الضائع البحث عن بديل يناسب مصالحها، وتعمل بأقصى ما تستطيع على إرجاء أي تغيير لعام واحد تجرى بعده انتخابات رئاسية مبكرة لا يشارك فيها بوتفليقة – كما تعهّد في رسالة منسوبة إليه. وفق ذلك التعهّد،÷ يوضع دستور جديد قبل الانتخابات الرئاسية المبكرة يكرس ميلاد جمهورية جديدة ونظام جزائري جديد يقضي على جميع أوجه التهميش والإقصاء وجميع أشكال الرشوة والفساد.
بالنظر إلى عمق فجوات الثقة لم يتوقف الحراك الشعبي، ولا توقفت مطالبات عزل الرئيس وإلغاء الانتخابات المقررة في نيسان/ أبريل المقبل. ومشكلة الحراك الشعبي أن قوته في غضبه من دون أن تتوافر له قيادة قادرة على الإمساك بحركة الأحداث وفق خطة عمل تلهم التغيير الضروري وتمنع أيّ انتكاسة محتملة.