لا تزال بغداد تقيّم دوافع «الانفتاح» الخليجي عليها، وما يمكن أن تجنيه منه. عوامل كثيرة تثير هواجسها وتدفعها إلى الحذر إزاء خطوات الرياض تحديداً؛ إذ إن الأخيرة لا تزال تنظر إلى العراق كساحة تنافس مع إيران، ومع قطر وتركيا أخيراً! من هنا، تتريّث بغداد في التعامل مع الخطوات السعودية والإماراتية حيالها، من دون أن يمنعها حذرها من استثمار ذلك في تحقيق ما تقول إنه «توازن» مطلوب في العلاقات.
طوى العراق أسبوعاً حافلاً بلقاءات جمعت مسؤوليه بزوار من الدول المحيطة به: إيران والسعودية وقطر. وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، لخّص زيارة رئيسه، حسن روحاني، بالقول إنها «حلّت القضايا العالقة في العلاقات بين البلدين منذ عقود عدة، مثل التأشيرة المجانية للزوار، وكَرْي (حفر) نهر آروند، وإنشاء خط السكة الحديدية شملجة ــــ البصرة»، لافتاً إلى أن الجانبين توصّلا إلى «نتائج إيجابية… وقد وضعنا لمساتها النهائية». هذه النتائج التي تصبّ في إطار تخفيف العقوبات الأميركية على طهران، ومحاولة تحصيل «عملة صعبة» من بغداد (دفعت الحكومة العراقية أخيراً جزءاً من ديونها للحكومة الإيرانية)، التي تتضمّن كذلك رسائل إلى القريب والبعيد في شأن حضور إيران على الساحة العراقية وتأثيرها، سرعان ما استنفرت السعودية للحضور سريعاً إلى عاصمة الرشيد.
هكذا، حلّ وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج العربي (السفير السعودي السابق في بغداد)، ثامر السبهان، برفقة وفد من بلاده، في بغداد، حيث حاول «الاستفهام عن أهداف زيارة روحاني، وماذا يريد الإيرانيون»، بحسب ما يقول مصدر أمني رفيع لـ«الأخبار»، لافتاً إلى أن القلق كان طاغياً على استفساراته. لكن الجانب العراقي أجاب بـ«الاعتذار»، طالباً «عدم التدخل في شؤوننا الداخلية، وعلاقاتنا مع جيراننا»، مؤكداً في الوقت عينه «أننا نريد علاقات مميزة مع جميع جيراننا».
وبين زيارتَي الوفدين الإيراني والسعودي، حطّ القطريون أيضاً رحالهم في بغداد، الأمر الذي أثار أسئلة متجددة عن التسابق بين العاصمتين الخليجيتين المتنافستين. وفيما تسود تقديرات بأن الإمارة الخليجية الصغيرة، التي أدّت دوراً لم تستسغه المملكة في السنوات السابقة، تبحث عن موطئ قدم لها في العراق، في إطار استراتيجيتها المضادة للرياض وأبو ظبي، تفيد معلومات «الأخبار» بأن هذا الحراك القطري لا ينفصل عمّا تقوم به كلّ من أنقرة وطهران، وأن أبرز الاستثمارات القطرية ستكون في تطوير شبكة الاتصالات، وإعادة الإعمار، وتمويل المشاريع، إضافة إلى التنقيب عن الغاز.
يزور الرئيس السوري بشار الأسد العاصمة العراقية خلال الشهرين المقبلين
في قراءتها الحراك الديبلوماسي الأخير تجاه بغداد، ترى مصادر مطلعة أن صحوة الخليجيين المتأخرة لتحقيق حضور في قلب العملية السياسية العراقية ستؤول إلى «الضياع» في ظلّ التنافس السعودي ـــ القطري، لافتة إلى أن للجانب العراقي نظرته لهذا «الانفتاح» العربي، وكيفية التعامل معه. تفيد معلومات «الأخبار» بأن دوائر القرار العراقي تميل إلى التعامل مع الدوحة، بفعل توجّسها من خطوات الرياض وأبو ظبي، والذي يغذيه شعور جماعي بمسؤولية السعودية عن الأحداث الدموية التي وقعت ما بين عامَي 2007 و2017. ما يعزّز هذا التوجّس أيضاً غياب أي أثر لـ«المجلس التنسيقي السعودي العراقي»، الذي أُسّس صيف 2017. حتى الآن، أثبتت هذه المبادرة (التي أرادت الرياض منها منافسة طهران في الحضور والتأثير) فشلها، في ظلّ غياب تام لتنفيذ أيٍّ من المشاريع المشتركة أو الاستثمارية، فيما لا يُبدي الإماراتيون، وفق مصادر حكومية، أي «جدية» في الانفتاح على العراق، وهو ما ينسجم مع استراتيجية ولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، القائمة على تقديم ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، فيحمل الأخير وزر أي إخفاق، فيما يشاركه الأول استثمار أي نجاح.
مصادر حكومية عراقية تفنّد دوافع «الحذر» إزاء الحراك الخليجي وفق الآتي: أولاً، رغبة الخليجيين في تحقيق أكبر قدر ممكن من الاستثمارات الاقتصادية في «عراق ما بعد داعش»، في مختلف المجالات، وأبرزها إعادة الإعمار. ثانياً، سعيهم إلى منافسة إيران من خلال رفع لافتة «العمق العربي» للعراق. وثالثاً، خوفهم من فقدان دورهم في بلاد الرافدين، وحرصهم على استثمار هذا «الانفتاح» في تقديم «أوراق اعتماد» جديدة للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الساعي إلى «مراقبة» إيران من الداخل العراقي.
أمام زواره، يشدد رئيس الوزراء، عادل عبد المهدي، على «الهوية العربية» للعراق، مُفضّلاً تسمية «المحور الإيراني» بـ«داعمي التحرير». وهي تسميات تجلّي سعيه إلى تحقيق توازن في علاقات بغداد الإقليمية والدولية، مثلما سيحاول أن يفعل خلال جولته المرتقبة الشهر المقبل، التي تشمل مصر والأردن والسعودية وإيران وتركيا. لكن هذا «التوازن» لن يمنع بغداد من الذهاب بعيداً في إقامة «علاقات مميزة» مع دمشق، على قاعدة «وحدة المصير»، وفق ما ينقل زوار عبد المهدي عنه. وهو ما ستبادله سوريا بالمثل، خصوصاً أن معلومات «الأخبار» تفيد بأن الرئيس السوري، بشار الأسد، سيزور العاصمة العراقية قريباً (خلال الشهرين المقبلين). وينقل الزوار عن رئيس الحكومة أيضاً أن ثمة دوراً استراتيجياً سيؤديه العراق في المرحلة المقبلة؛ إذ «(إننا) لن نكون فقط لاعبين أو مؤثرين، بل سنرقى إلى أداء دور عرّابي مقاربات وحلول… بين إيران والسعودية، وما يمثّله الطرفان»، خاصة أن الزيارات المتبادلة بين العراقيين والخليجيين خلال الأسابيع الماضية، حملت رسائل متمحورة حول البحث عن حلقة «لقاء»، يبدو أن العراق سيمثلها لاحقاً.
العراق يعوّض غياب مصر؟
يرى مصدر ديبلوماسي نشط في العاصمة بغداد أن «المرحلة المقبلة تفرض العراق لاعباً أساسياً في المنطقة»، معتبراً أن «العراق سيملأ فراغ مصر». يوضح المصدر وجهة نظره بالقول إن «مصر، برئاسة عبد الفتاح السيسي، فقدت حضورها/ دورها الإقليمي ـــ العربي». فـ«التزام» السيسي قرار «المحمدين» (ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد)، نقل القاهرة من «موقع المشارك في صناعة القرار، إلى موقع الملتزم قرار مشيخات الخليج»، وهو ما ولّد فراغاً دفع إلى «التفكير جدّياً» في كيفية تعويضه، منذ إعلان رئيس الوزراء السابق، حيدر العبادي، في كانون الأول/ يناير 2017، الانتصار على تنظيم «داعش».