لم تفوّت إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، فرصةً إلّا استغلّتها للانتقام من مؤسِّس «ويكيليكس»، جوليان أسانج؛ إذ إنها عَهدت إلى مدير الـ»سي آي إيه» آنذاك، مايك بومبيو، تدبُّر أمر الرجل الذي اعتبره «مصدر تهديد رئيسيّ للولايات المتحدة»، فاقترح اختطافه أو حتى اغتياله، لِمَا تسبَّب به من إحراج للوكالة التي يرأسها، قبل أن تسقط الفكرة لاعتبارات تخصّ «صورة أميركا». ومع مضيّ كل هذا الوقت، لم تنتهِ الحرب الأميركية ضدّ أسانج، وإن كانت قد اتّخذت منحىً آخر وَضَعَ، في ظلّ الإدارة الحالية، القضيّة جانباً، ريثما تبتكر الأخيرة طريقتها، والتي لا يُتوقَّع أن تكون مختلفة عن سابقاتها، للتعامل معه، فيما لو تقرَّر ترحيله ليُحاكَم في الولايات المتحدة
لا تزال فضائح حقبة دونالد ترامب تتوالى. في أحد وجوهها، شكّلت ملاحقة مؤسِّس «ويكيليكس»، جوليان أسانج، ولاحقاً اعتقاله من داخل سفارة الإكوادور في لندن، وبينهما طرْح خيار اغتياله على طاولة وكالة الاستخبارات المركزية والبيت الأبيض، قبل أن يُصار سريعاً إلى استصدار وزارة العدل لائحة متضخّمة من التُهم ضدّه، ودعوتها إلى محاكمته بموجب «قانون التجسُّس» الأميركي، أولويةً بالنسبة إلى الإدارة المنصرفة. وإنْ لم تُعِر رئاسة جو بايدن، المنهمكة راهناً بإدارة العلاقات مع الحلفاء كما الخصوم، أهميّة لقضيّة «ويكيليكس»، لا يبدو أنها تحمل توجُّهاً مختلفاً عن ذاك الذي ساد إبّان عهد إدارتَي دونالد ترامب وباراك أوباما. فقضيّة «ويكيليكس» ومؤسِّسه، والتي عرَّت السياسة الأميركية كما لم يحصل إطلاقاً، لم تكن يوماً مرتبطة بتوجّهات الإدارة الحاكمة، جمهورية كانت أو ديموقراطية.
لهذا السبب وغيره، طرحت الإدارة السابقة، من جملة ما طرحته، فكرة التخلُّص من أسانج، إمّا باختطافه، أو حتى اغتياله. هذا ما كشفه تقرير مفصّل استند إلى مقابلات مع أكثر من 30 مسؤولاً أميركياً سابقاً، نشرته خدمة أخبار «ياهو»، قبل يومين، من أن مسؤولين بارزين في الـ»سي آي إيه» طرحوا هذا الاحتمال في عام 2017، حين كان مايك بومبيو لا يزال على رأس الوكالة. خمسُ سنوات كانت قد مرّت على لجوء الرجل إلى سفارة الإكوادور، لتجنُّب تسليمه إلى الولايات المتحدة أو السويد، حيث واجَه تُهم اغتصاب طَعَن فيها وأُسقطت لاحقاً، حين استشاط بومبيو وكبار مسؤولي الـ»سي آي إيه» غضباً من نشر «ويكيليكس» سلسلة وثائق «فولت 7»، والتي كشفت عن أدوات برمجيّة متطوّرة وتقنيات تستخدمها الوكالة، لاختراق الهواتف الذكية وأجهزة الكومبيوتر وأجهزة التلفزيون والسيارات المتّصلة بالإنترنت. يروي مسؤول سابق في مجلس الأمن القومي أن التسريب الذي وُصف بـ»الأكبر في تاريخ الوكالة»، تسبّب بحرجٍ شديد لمديرها ومسؤوليها الذين كانوا «منفصلين تماماً عن الواقع… كانوا يرَون دماءً»، على حدّ تعبيره. فاندفع هؤلاء وغيرهم من كبار رموز الإدارة، وفق مسؤول سابق في مجال مكافحة الإرهاب، إلى طلب «مخططات» لاغتيال أسانج. خلال المناقشات التي جرت على أعلى مستويات إدارة ترامب، «لم يكن يوجد سقف للخيارات»، بل إن بومبيو، بصفته مديراً للوكالة، ذهب في حينه إلى حدّ اعتبار «ويكيليكس» مصدر «تهديد رئيسيّ للولايات المتحدة». وفي مداخلة أمام «معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية» في واشنطن (نيسان 2017)، وصف بومبيو المنظّمة بأنها «جهاز استخباري معادٍ» يشكّل تهديداً للديموقراطيات، ويعمل لمصلحة الطغاة، متهماً إيّاها بتلقّي مساعدات من «جهات حكومية، مثل روسيا».
استشاط بومبيو وكبار مسؤولي الـ«سي آي إيه» غضباً من نشر «ويكيليكس» سلسلة وثائق «فولت 7»
عُهِد إلى بومبيو، في ذلك الوقت، قيادة الحملة ضدّ «ويكيليكس» ومؤسِّسه، فضرب عرض الحائط بـ»الأعراف القانونية» التي كان يمكن أن تتسبّب بحرج لوزارة العدل، وأن تضرّ بالعلاقات مع المملكة المتحدة، أقرب حليف لبلاده. على هذه الخلفية، أعرب مسؤولون في مجلس الأمن القومي عن قلقهم إزاء مقترحات الوكالة التي وصفوها بـ»غير القانونية»، كونها ستُعرّض للخطر محاكمة أسانج، وستعرقل «قضية جنائية محتملة»، ما دفع وزارة العدل إلى المسارعة في صياغة لائحة اتهام ضدّ أسانج للتأكّد من جاهزيتها في حال تقرَّر جلبه إلى الولايات المتحدة. بحلول نهاية عام 2017، وفي خضمّ الجدل الدائر حول اختطاف مؤسِّس «ويكيليكس» أو اغتياله، انقلبت خطط الوكالة رأساً على عقب، عندما «التقط» مسؤولون أميركيون ما اعتبروه تقارير مقلقة تفيد بأن عملاء من الاستخبارات الروسية كانوا يتهيّأون لنقل أسانج إلى موسكو. في ذلك الوقت، سعت الإكوادور، قبل أن يتبدَّل مزاج رئيسها لينين مورينو تجاه الولايات المتحدة، إلى منح أسانج لجوءاً دبلوماسياً لمغادرة السفارة، والانتقال إلى موسكو للعمل لدى بعثتها هناك. في ضوء هذه التطوّرات، بدأت وكالة الاستخبارات المركزية والبيت الأبيض يتحضّران لعدد من السيناريوات لإحباط «الخطط الروسية»، وفق ثلاثة مسؤولين سابقين تحدّثوا إلى «ياهو». ومع احتدام الجدل حول «ويكيليكس»، كان البعض في البيت الأبيض قلقاً من أن تنتهي الحملة ضدّ المنظّمة إلى «إضعاف أميركا»، كما قال أحد مسؤولي مجلس الأمن القومي في إدارة ترامب.
حملت السنوات الأربع الأخيرة متغيّرات كثيرة. ومع أن الوكالة لم تلجأ إلى «الخيار المتطرّف»، إلّا أن الولايات المتحدة تمكّنت من الضغط على الإكوادور، في ربيع عام 2019، لتسليم مؤسِّس «ويكيليكس» إلى المملكة المتحدة، وهو ما قرّب من احتمال ترحيله ليُحاكم في أميركا، والذي يبدو اليوم أكثر رجحاناً، في ظلّ التحالف الذي عزّزه اتفاق «أوكوس» بين الثلاثي: واشنطن وكانبيرا ولندن. مع هذا، يأمل باري بولاك، محامي مؤسِّس «ويكيليكس»، ويتوقَّع أن «تنظر محاكم المملكة المتحدة في هذه المعلومات التي ستعزّز قرارها عدم تسليم أسانج إلى الولايات المتحدة»، وخصوصاً بعدما رفضت القاضية البريطانية، فانيسا باريتسر، في كانون الثاني الماضي، تسليمه إلى واشنطن حيث سيحاكم بموجب «قانون التجسّس»، كونه معرّضاً لخطر الانتحار. يقول مسؤول سابق في مجلس الأمن القومي إن الدروس المستفادة من حملة وكالة الاستخبارات المركزية ضدّ «ويكيليكس» واضحة: «كان هناك مستوى غير مناسب من الاهتمام بأسانج، نظراً إلى الإحراج الذي يسبّبه، وليس التهديد الذي يمثّله».