خيانة، انتهازية وطعن بالظهر هكذا وصف الفرنسيون إقدام الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا في 16 أيلول 2021 عن إعلان إقامة ما عرف بحلف “اوكوس” الذي تزامن مع إلغاء أستراليا لصفقة بناء 12 غواصة لأستراليا تعمل بالديزيل كانت قد وقّعتها أستراليا مع فرنسا عام 2016 ووصفتها فرنسا بأنها صفقة القرن. جاء الإلغاء على خلفية تعهّد الولايات المتحدة وبريطانيا بناء الغوصات الأسترالية وتزويدها بمحركات تعمل بالطاقة النووية، هذه التكنولوجيا التي لا تتقاسمها الولايات المتحدة الأميركية إلا مع بريطانيا لتكون أستراليا ثالث دولة تحصل على هذه التكنولوجيا.
قد يكون الشق الإقتصادي أحد الأسباب التي اغضبت باريس حيث استدعت سفيريها في كل من واشنطن وكامبرا، علماً أنها المرة الأولى التي تستدعي فرنسا سفيرها في واشنطن منذ العام 1778. لكن الشق الآخر للغضب الفرنسي هو استثناء باريس من الحلف الجديد مع أن باريس كانت قد اتفقت مع أستراليا للحصول على موطئ قدم دائم لها في الموانئ والأراضي الأسترالية بالإضافة إلى قبول مشاركتها في المناورات السنوية التي تجريها واشنطن وكامبرا.
لا يخفى على المراقبين طبيعة حلف “اوكوس” الذي يرتكز على البعدين العرقي والثقافي (الانكلوساكسوني) وكما وصفه بوريس جونسون رئيس وزراء بريطانيا على أنه حلف أقارب بالإضافة إلى أبعاده السياسية والعسكرية الإستراتيجية وعلى رأسها احتواء الصين. من المعروف أن هذه الدول بالإضافة إلى نيوزيلندا وكندا تقيم حلفاً أمنياً استراتيجياً يعرف “بالعيون الخمس” وهناك أيضاً إتفاقية “الأنزس” التي تضّم إلى الولايات المتحدة كل من نيوزيلندا وأستراليا، ومن أجل احتواء الصين تعمل الولايات المتحدة لإقامة حلف (الكواد) الذي يضم اليابان والهند وأستراليا.
لكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن، لماذا أستراليا وما هي الفوائد والأضرار التي ستنتج عن هذا الحلف؟
تعتبر الصين الشريك التجاري الأول لأستراليا وقد بلغ التبادل التجاري بين البلدين عام 2020 أكثر من 150 مليار دولار سنوياً. وهذا ما أمّن لأستراليا 30 عاماً من النمو الإقتصادي بدون أي ركود.
الولايات المتحدة تعتبر الحليف الاستراتيجي الأول لأستراليا بالإضافة إلى أن اميركا أكبر المستثمرين في أستراليا وتلعب الخلفية الثقافية دوراً واضحاً في هذه العلاقة مع غلبة واضحة للتأثير الأميركي، هذا ما يبدو جلياً بغض النظر عن الحزب الحاكم في أستراليا سواء كان حزب أحرار أم عمال رغم أن بعض السياسيين العماليين يحاولون التمايز عن السياسة الأمريكية، لكن الشواهد التاريخية تثبت تبعية أستراليا للولايات المتحدة، ويتندر الصحافيون الأستراليون على القيادة السياسية بهل أتصل الرئيس الأميركي برئيس الوزراء عندما أرادت الولايات المتحدة الذهاب إلى أي حرب من الحرب الكورية إلى حرب فيتنام وحرب العراق الأولى واحتلال افغانستان وغزو العراق وما عرف بالحرب على الإرهاب.
في العام 2011 زار الرئيس الأميركي الأسبق باراك اوباما أستراليا ووقع مع رئيسة الوزراء أنذاك جوليا غيلارد (عمال) إتفاقية تسمح للولايات المتحدة بإقامة قاعدة أميركية دائمة في دارون شمال أستراليا يتمركز فيها 2400 من قوات البحرية الأميركية ويحكى الآن عن إمكانية زيادة عديد القوات.
إن الموقع الأستراتيجي لأستراليا بين المحيطين الهندي والهادئ جعلها نقطة الإرتكاز في الاستراتيجية الأميركية في جنوب شرق آسيا التي تشكل الشريان الرئيسي للتجارة العالمية، يضاف إلى ذلك ما تقدم
من التماهي إن لم نقل التبعية أو الإعتماد الأسترالي على أميركا في الدفاع عن أستراليا التي اندفعت منذ عدة سنوات بإشهار نوع من العداء تجاه الصين الشريك التجاري الأول لأستراليا كما تقدم.
كانت أستراليا من أوائل الدول التي منعت شركة هاواوي الصينية من المشاركة في بناء شبكة الجيل الخامس من الإتصالات، وأقر البرلمان الأسترالي وبالتوافق بين الحكومة والمعارضة قوانين التدخل الخارجي والذي اعتبرته الصين موجّهاً ضدها وكانت القشة التي قسمت ظهر البعير مطالبة أستراليا إجراء تحقيق دولي عن مصدر جائحة كورونا مما دفع الصين لفرض عقوبات إقتصادية وجمركية ووقف استيراد للبضائع الأسترالية قاربت 20 مليار دولار.
مما تقدم ندرك لماذا هذه الإندفاعة الأسترالية لتعميق التحالف مع الولايات المتحدة وبريطانيا في ظل عدم وجود معارضة فعلية من حزب العمال المعارض لإتفاقية “أوكوس” حسب تصريح زعيمه الحالي انطوني البنيزي، وعارض أتفاقية “أوكوس” بشدة بول كيتنغ رئيس الوزراء الأسبق (عمالي) الذي وصف الإتفاقية بأنها تخلي عن السيادة الأسترالية ورهن القرار السياسي الأسترالي وربطه باستراتيجية الولايات المتحدة الأميركية.
وكان النائب العمالي كيم كار قد طالب بلجنة تحقيق برلمانية بالإتفاق خصوصاً أن الحكومة لم تطلع المعارضة بشكل كافٍ على بنود الإتفاقية قبل توقيعها، وقد أيّد الإتفاق طوني ابوت رئيس الوزراء السابق (أحرار) بينما التزم الصمت مالكوم تينبول (أحرار) رئيس الوزراء السابق الذي وقّعت حكومته إتفاقية بناء الغواصات مع فرنسا.
فرنسا التي اعتبرت أنها طعنت بالظهر، برهنت عن مراهقة سياسية خصوصاً أن كلام دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأميركي الأسبق عن القارة العجوز اي اوروبا لم يجف حبره بالإضافة إلى دعم أميركا وإدارة ترامب خروج بريطانيا من الأتحاد الأوروبي وغيرها من الأدلّة.
أما فيما يتعلّق بدول الجوار لأستراليا فكانت ردود الفعل متباينة وأثار الإتفاق حساسية بعض دول الجوار. أندونيسيا طالبت أستراليا بعدم التخلي عن إتفاقية عدم إنتشار الأسلحة النووية في المنطقة، ماليزيا أعربت عن خشيتها من الإتفاقية وأرسلت وفداً إلى الصين للتباحث معها حول رد الفعل الصيني فيما يتعلّق بالإتفاق، الفيليبين أيّدت الإتفاق لأن لها نزاع حدود مع الصين، وكذلك فعلت فيتنام التي تمنّت أن يكون الإتفاق كعامل مساعد للسلام في المنطقة.
أخيراً، لماذا أقدمت أستراليا على توقيع ذلك الإتفاق ورهن علاقتها التجارية مع الصين التي لم تشكل تهديداً لأستراليا كما قال بول كيتينغ رئيس وزراء أستراليا الأسبق. يبقى الجواب عند سكوت موريسن رئيس الوزراء الأسترالي فما هي دوافعه والأسباب التي جعلته يذهب بهذا الإتجاه الذي أغضب فرنسا واندفع بإتجاه الولايات المتحدة الأميركية رغم أن فرنسا كانت قد عرضت على أستراليا فكرة بناء الغواصات بمحركات نووية.
عباس علي مراد