لم يدرك أبو أنيس أن هناك شيئا غير معتاد يحدث من حوله إلا حين سمع أصوات انفجارات
قادمة من المدينة القديمة على الضفة الغربية من نهر دجلة الذي يجري عبر الموصل.
“هاتفت بعض الأصدقاء هناك، وقالوا إن جماعات مسلحة سيطرت على المدينة، بعضهم أجانب وبعضهم عراقيون. وقال لهم المسلحون، جئنا لنتخلص من الجيش العراقي، ونساعدكم”، هكذا استرجع فني الكمبيوتر أبو أنيس ذكرى ذلك اليوم.
وفي اليوم التالي، عبر المسلحون النهر واستولوا على الجزء المتبقي من المدينة. غير أن عناصر الجيش والشرطة العراقيين، الذين كانوا يفوقون المهاجمين عددا بفارق شاسع، تفرّقوا وفرّوا، وفي مقدمتهم الضباط، بينما خلع الكثير من الجنود ملابسهم العسكرية لينضموا إلى جموع المدنيين المذعورين.
كان هذه هو يوم 10 من يونيو/ آذار 2004، في أعقاب سقوط ثاني أكبر مدينة عراقية، ويبلغ عدد سكانها مليوني نسمة، في قبضة مليشيات من الجماعة التي كانت تطلق على نفسها في ذلك الحين اسم “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش).
وقبل أربعة أيام من ذلك اليوم، تدفقت الرايات السوداء في اتجاه المدينة، وعبر بضع مئات من عناصر التنظيم الحد الصحراوي في موكب انطلق من قواعد التنظيم شرقي سوريا، ولم يلق سوى مقاومة محدودة في طريقه للفوز بجائزته الكبرى.
وكانت الغنائم الوفيرة في انتظارهم. فقد قام الجيش العراقي، الذي أعاد الأمريكيون بنائه وتدريبه وتجهيزه بالعتاد بعد غزو العراق بقيادة الولايات المتحدة عام 2003، بالتخلي عن عدد كبير من المدرعات والأسلحة المتقدمة حيث استحوذت عليها المليشيات على الفور. كما قيل أنهم نهبوا نحو 500 مليون دولار من فرع البنك المركزي في الموصل.
تنظيم الدولة الإسلامية: يستميت ليبقى ثريا
قال أبو أنيس: “في البداية، تصرفوا بشكل جيد. فقد أزالوا جميع المتاريس التي وضعها الجيش بين الأحياء. وقد راق ذلك للناس. وكانوا ودودين ومتعاونين عند نقاط التفتيش، فكانوا يقولون: إذا احتجتم أي شيء، نحن هنا من أجلكم”.
لكن بعد أسابيع قليلة، لم تكد تمر أيام حتى حدثت أمور مروّعة بالفعل فيما بدا كأنه كان شهر عسل وانتهى.
فمع انهيار الجيش في المنطقة الشمالية بأكملها، تحركت الميليشيات بسرعة عبر وادي دجلة، وتساقطت البلدات والقرى واحدة تلو الأخرى، كما تتساقط القناني. ولم يكد يمر يوم حتى استولى مسلحو التنظيم على بلدة بيجي بما في ذلك المعمل الضخم لتكرير النفط بها، ثم سرعان ما استولوا أيضا على بلدة تكريت القديمة، مسقط رأس صدام حسين، ومعقل السنة.
وعلى أطراف تكريت، توجد قاعدة عسكرية كبيرة، سيطر عليها الأمريكيون منذ 2003، وتغير اسمها إلى معسكر سبايكر، نسبة إلى أول قتيل أمريكي في حرب الخليج الثانية “عاصفة الصحراء”، وهو طيار يُدعى سكوت سبايكر، أسقطت طائرته عام 1991 على منطقة الأنبار في الغرب.
ثم حاصرت ميليشيات تنظيم الدولة ذلك المعسكر، وهو يعجّ بالمجندين العراقيين، واستسلم المعسكر بأكمله. وقد صُنف آلاف الأسرى بحسب انتماءاتهم، فالشيعة منهم أٌخِذوا وقيدوا ونُقلوا في شاحنات بعيدًا ليطلقوا النار عليهم في خنادق معدة مسبقًا. ويُعتقد أن قرابة 1.700 شخص قتلوا في هذه المذبحة بدم بارد. ولا تزال عمليات البحث عن المقابر الجماعية مستمرة.
وبدلًا من أن يخفي التنظيم جرائمه الوحشية، تلذّذ بعرض مقاطع فيديو وصور على الإنترنت تظهر عناصره المتشحون بالسواد وهم يقتادون السجناء الشيعة ويطلقون عليهم الرصاص.
أما من حيث الزهو والابتهاج بالقسوة والأعمال الوحشية، فإن ما حدث بعد ذلك كان أكثر بشاعة.
فبعد توقف دام شهرين فقط، أطل داعش الذي بات يعرف بتنظيم “الدولة الإسلامية”، برأسه مرة أخرى ليستحوذ على مساحات كبيرة شمالي العراق التي يقطنها الأكراد.
وكانت مدينة سنجار ذات الأغلبية الإيزيدية، هذه الأقلية الدينية التي يعدُّها التنظيم مجموعة من الزنادقة، من بين تلك المناطق.
فقتل المئات من الإيزيديين الذين لم يتمكنوا من الفرار. أما النساء والأطفال، ففصلوا عن بعضهم البعض ثم أخذوا سبايا حرب، إلى حين بيعهم أومقايضتهم كسلع منقولة، واستخدمت الفتيات والنساء جواري للمتعة الجنسية. ولا يزال الآلاف مفقودين، يواجهون هذا المصير.
ووصل تعطش التنظيم، الذي يتعمد أن يكون صادما، لسفك الدماء أوجه بنهاية الشهر نفسه، في أغسطس/ آب 2014.
فقد بث التنظيم مقطع فيديو يظهر فيه قاطع الرؤوس سيء الصيت محمد اموازي، ذو اللكنة اللندنية، والذي لُقب على سبيل التندر باسم “الجهادي جون”، وهو يقتل الصحفي الأمريكي جيمس فولي بطريقة تقشعر لها الأبدان.
وفي الأسابيع اللاحقة، ظهر المزيد من الصحفيين وموظفي الإغاثة الأمريكيين والبريطانيين، منهم ستيفن سوتلوف، وديفيد هينز وألان هينينج وبيتر كاسيغ (الذي كان قد أشهر اسلامه وغير اسمه إلى عبد الرحمن) وهم يُذبحون في مقاطع فيديو مشابهة متقنة الإنتاج والإخراج، لم تخل من البيانات التروجية للتنظيم والتحذيرات المروّعة.
وفي غضون شهور، شقّ تنظيم الدولة الإسلامية، الذي لم يكن سوى جماعة مغمورة، طريقه نحو العالمية، متبنيًا تفجيرات هنا وهناك، وبين عشية وضحاها، أصبح محط أنظار العالم.
وعلى مسافة سبعة آلاف ونصف ميل، ما يعادل 12 ألف كيلومتر من المناطق التي يسيطر عليها التنظيم، لخّص توني أبوت، رئيس الوزراء الأسترالي آنذاك، هذا الرعب الجديد الذي يندى له الجبين، متحدثا عن التنظيم: “همجية القرون الوسطى، اقترفت الجرائم وازدادت توسعًا مستعينةً بأحدث الوسائل التكنولوجية”.
فقد برز تنظيم الدولة الإسلامية، لافتا نظر العالم إليه. ولكن هؤلاء الرجال المتشحين بالسواد لم يأتوا دون سابق إنذار. فقد كانوا يُعدّون لذلك منذ وقت طويل.
لاهوت القتل
تمتد الجذور الدينية أوالإيديولوجية لتنظيم الدولة الإسلامية وما يشابهها من جماعات عبر التاريخ منذ بداية ظهور الإسلام تقريبًا في القرن السابع الميلادي.
فقد نزل الإسلام، كالمسيحية من قبله بستة قرون، واليهودية قبل ثمانية قرون، في منطقة الشرق الأوسط بطبيعتها القبليّة القاسية.
وكتب ويليام بولك المؤرخ والناشر: “انعكست المجتمعات القبلية البدائية اليهودية والعربية في النصوص الأصلية، أي العهد القديم والقرآن، فلا اليهودية المبكرة ولا الإسلام يسمحان بالردة. فكل منهما يعتبر ثيوقراطية استبدادية”.
وتابع “فقد كانت القوانين، المنصوص عليها في العهد القديم، تهدف إلى حفظ التماسك القبلي والسلطة وتعضيدهما، أما نصوص القرآن، فكانت تهدف إلى اجتثاث ما تبقى من الوثنية وما يصاحبها من ممارسات”.
ومع مرور الأعوام، انتشر الإسلام في مناطق شاسعة، مواجهًا ومتوائما مع مجتمعات وديانات وثقافات مغايرة. فلم يجد مفرًا من التغير، من حيث الممارسات، بطرق شتى، ليصبح أكثر برغماتية وتسامحا تارة، وفي أحيان كثيرة كان يوضع في المنزلة الثانية بعد متطلبات السلطة والسياسة والحكام المؤقتين تارة أخرى.
أما بالنسبة للمسلم التقليدي المتشدد، ترقى تلك الممارسات إلى الانحراف عن الطريق المستقيم، ومنذ سنين طويلة، وقع تضارب في الأفكار، ولكن أولئك الذين نادوا بالعودة بصرامة إلى “نقاء” الأيام الأولى للإسلام، لطالما دفعوا الثمن.
فقد سُجن العالم البارز أحمد بن حنبل (780 إلى 855)، الذي أسس أحد المذاهب السنية الأربعة في الفقه الإسلامي، وضُرب بالسوط ذات مرة حتى سقط مغشيًا عليه في أحد الخلافات مع الخليفة العباسي في بغداد. وبعد قرابة خمسة قرون، قضى أحد كبار الأئمة من نفس المذهب الأصولي الصارم، الإمام ابن تيمية، حتفه في السجن في دمشق.
وهذان الشيخان يعدان الأبوين الروحيين لمن جاء بعدهم من مفكرين وما ظهرت من حركات، عرفت لاحقًا باسم “المذهب السلفي”، الذي يدعو إلى العودة إلى منهاج السلف الصالح.
وقد أثرا في شخص آخر جاء من بعدهم، كان لتفكيره وكتاباته وقع هائل ومستمر على المنطقة وعلى الحركة السلفية، ومن أحد أشكالها، الوهابية، التي سُميت على اسم هذا الرجل.
وُلد محمد بن عبد الوهاب عام 1703 في قرية صغيرة في منطقة نجد، في قلب شبه الجزيرة العربية.
اتخذ عبد الوهاب، وهو عالم إسلامي ورٍّع، الاتجاه الأكثر تزمتًا وصرامةً من ما كان يرى أنها العقيدة الأصلية، وطورها، وسعى إلى نشرها بإبرام مواثيق مع أصحاب السلطة السياسية والعسكرية.
وفي أولى محاولاته في هذا الاتجاه، كان أول إجراء اتخذه هدم ضريح زيد بن الخطاب، أحد صحابة النبي محمد، متذرعًا بأن العقيدة السلفية التي تدعو إلى الزهد والتقشف، تقضي بأن تعظيم القباب شركٌ بالله، لما فيه من تقديس لشيء أو شخص ما غير الله.
ولكن في 1744، دخل عبد الوهاب في تحالف حاسم مع الحاكم المحلي محمد بن سعود في صورة ميثاق جعل الدعوة الوهابية هي البعد الديني أو الفكري للتوسع السياسي والعسكري السعودي، وكان ذلك لمصلحة الطرفين.
وقد انتشر هذا التحالف الثنائي، الذي طرأت عليه تعديلات عديدة، ليشمل جلّ شبه الجزيرة العربية، ومازال مستمرًا إلى يومنا هذا، يحكم بمقتضاه آل سعود بالتوافق مع المؤسسة الدينية الوهابية المتشددة، وإن كان هذا التوافق قد مر ببعض الفترات الصعبة.
وقد وفر كل من تأصّل السلفية الوهابية في المملكة العربية السعودية، جنبًا إلى جنب مع المليارات من البترودولارات (عوائد النفط المدفوعة بالدولار)، التي وضعت تحت تصرفها، بيئة خصبة لنمو العنف الجهادي في المنطقة في العصر الحديث. والجهاد يعني النضال في سبيل الله، وهو ما قد يشمل صورا كثيرة من جهاد النفس، ولكنه يُفسر في الغالب كدعوة لشن حرب مقدسة.
ولكنّ ثمة رجلًا ينسب إليه دومًا الفضل تارة لاستحضار الفكر السلفي إلى القرن العشرين وينحى عليه باللائمة تارة أخرى، وهو المفكر المصري سيد قطب. فقد عمل قطب على توفير جسر بين فكر عبد الوهاب وأسلافه وبين جيل جديد من الجهاديين، ممهدًا السبيل لظهور تنظيم القاعدة وكل ما تلاها فيما بعد.
وُلد سيد قطب في قرية صغيرة في صعيد مصر عام 1906، لكنه كان رافضا للطريقة التي يُدرّس بها الإسلام ويمارس آنذاك. ولم تغيّر فترة دراسته في الولايات المتحدة التي استمرت عامين في أواخر أربعينيات القرن العشرين، من نظرته للغرب قطّ، بل على العكس زادته امتعاضًا من المجتمع الذي أصدر عليه حكما بأنه مادي وكافر ومنغمس في الملذات، وهو ما انعكس على نظرته الإسلامية الأصولية التي بدأت في اتخاذ شكل أكثر صرامة.
وحين عاد إلى مصر، اكتمات لديه وجهة نظر مفادها أن الغرب يعمل على بسط نفوذه في المنطقة، بشكل مباشر أو غير مباشر، بعد انهيار الدولة العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى بمشاركة حكام في المنطقة يزعمون أنهم مسلمون، ولكنهم في الحقيقة قد انحرفوا عن الطريق الصحيح انحرافًا بينًا ولم يعد من الممكن اعتبارهم في عداد المسلمين.
ومن وجهة نظر قطب، فالجهاد ضد الغرب وعملائه في المنطقة هو السبيل الوحيد الذي سيستعيد العالم الإسلامي نفسه من خلاله. وكان ذلك في جوهره، نوعا من القبول لفكرة التكفير، التي لا تسوغ قتل مسلم فحسب، بل تجعل قتله فرضًا يثاب فاعله.
وعلى الرغم من أن قطب كان منظّرًا ومفكرًا أكثر من كونه جهاديا نشطا، إلا أن السلطات المصرية حاكمت سيد قطب بتهمة محاولة قلب نظام الحكم، وقد أُعدِم عام 1966 بعد إدانته بتهم التآمر مع جماعة الإخوان المسلمين لاغتيال الرئيس جمال عبد الناصر.
لكن قطب كان سابقا لعصره، وقد خُلدت أفكاره في 24 كتابًا قرأها عشرات الملايين، ونقلها إلى غيره من خلال تواصله الشخصي مع معارفه من الناس، كان من بينهم أيمن الظواهري، مصري آخر، وهو القائد الحالي لتنظيم القاعدة.
وقال صديق مقرّب من مؤسس تنظيم القاعدة أسامة بن لادن: “كان قطب هو الأكثر تأثيرًا في جيلنا”. كما وُصف بأنه: “مصدر الفكر الجهادي”، و”فيلسوف الثورة الإسلامية”.
وبعد مُضي 35 عامًا على إعدامه، خلُص تقرير اللجنة الرسمية المكلفة بالتحقيق في هجمات الحادي عشر من سبتمبر / ايلول عام 2001 التي تبنتها القاعدة، إلى أن “بن لادن يشارك سيد قطب في رأيه المتشدّد، الذي يجيز له ولأتباعه تبرير القتل الجماعي على إنه دفاع شرعي عن عقيدة تواجه حربا”.
وما فتئ تأثيره باقيًا حتى اليوم. وقال هشام الهاشمي الخبير العراقي في الحركات الإسلامية، موجزًا جذور تنظيم الدولة الإٍسلامية وغيره من التنظيمات التي سبقته: “إنهم يستندون إلى أمرين: عقيدة تكفيرية يستمدونها من كتابات محمد بن عبد الوهاب، ومنهجيًا، الطريق الذي رسمه سيد قطب”.
إذن، فقه الجهاد المسلح اتخذ طريقه، لكن لم ينقصه سوى شيئين ليخرج إلى النور، ألا وهما ساحة القتال وخبراء استراتيجيون لتحديد شكل المعركة.
ووفرت أفغانستان المكان المناسب لكليهما.
بزوغ نجم القاعدة
كان الغزو السوفيتي عام 1979 وما تلاه من احتلال دام 10 أعوام، عاملا جاذبا استقطب المنضمين إلى صفوف المجاهدين من شتى أنحاء العالم العربي. إذ توافد نحو 35 ألف منهم على أفغانستان في هذه الفترة، من أجل الجهاد ومساندة الميليشيات المسلحة المسلمة في تحويل ساحة المعركة أمام الروس إلى فيتنام جديدة.
لا يوجد دليل قوي على أن من عرفوا فيما بعد بـ”العرب الأفغان” لعبوا دورًا قتاليًا محوريًا في إخراج السوفييت من أفغانستان. ولكنهم ساهموا مساهمة كبيرة في إقامة شبكات داعمة في باكستان، للاستفادة من الأموال القادمة من المملكة العربية السعودية وغيرها من المانحين لتمويل المدارس ومعسكرات تدريب المسلحين. وكانت تلك فرصة سانحة لتكوين شبكات وإقامة علاقات متينة فضلًا عن خوض تجربة الجهاد وجهًا لوجه.
والعجيب أن المجاهدين في أفغانستان وجدوا أنفسهم يحاربون جنبا إلى جنب مع الأمريكيين. فقد وجهت المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي أيه) من خلال برنامج “عملية سايكلون” مئات الملايين من الدولارات عبر باكستان إلى زعماء المجاهدين الأفغان مثل قلب الدين حكمتيار، الذي كانت تربطه علاقة وثيقة بالمجاهدين العرب.
وفي الحقيقة، جميع الوجوه البارزة في عالم المجاهدين الجدد خاضوا تجربة القتال على أرض الواقع للمرة الأولى في أفغانستان. وقد ساهموا في توجيه مسار الأحداث هناك في أعقاب انسحاب الجيش السوفيتي عام 1989، وهي الفترة التي شهدت بزوغ تنظيم القاعدة كأداة للجهاد العالمي واسع النطاق، ووفرت أفغانستان قاعدة له.
ولما تسلمت حركة طالبان زمام الأمور في 1996، كانت في شراكة بالفعل مع أسامة بن لادن ورجاله، ومن أفغانستان شنّت القاعدة هجماتها في الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول عام 2001.
وقد وفرّت هذه التجربة الأفغانية، التي كانت بمثابة مرحلة التكوين، زعماء جهاديين سلفيين اشتدّ ساعدهم في القتال، وخبراء استراتيجيين لعبوا فيما بعد دورًا ناجعًا في بزوغ تنظيم الدولة الإسلامية الآن.
وكان أبرز هؤلاء الأردني المتشدد أبو مصعب الزرقاوي، الذي انتهى به المطاف ليصبح الزعيم الروحي المباشر لتنظيم الدولة أكثر من أي شخص آخر.
فقد قضى الزرقاوي، الذي لم يكمل دراسته الثانوية، عقوبة السجن للمرة الأولى عندما حُكِم عليه في جرائم ذات صلة بالجنس والمخدرات، ثم اتجه إلى التدّين بعدما أُرسِل لحضور دروس في مسجد في العاصمة الأردنية عمّان. وقد تزامن وصوله إلى باكستان للانضمام إلى صفوف المجاهدين في أفغانستان مع انسحاب الجيش السوفيتي سنة 1989، ولكنه ظل باقيًا هناك في صفوف المجاهدين.
وبعدما عاد إلى الأردن، صدر عليه حكما بالسجن 15 عامًا بتهم المشاركة في أعمال إرهابية، قبل أن يطلق سراحه بموجب عفو عام. وأخيرا التقى الزرقاوي بن لادن ونائبه أيمن الظواهري عام 1999.
ولكنّ كل الروايات تشير إلى أن زعيمي القاعدة، لم يرق لهما الزرقاوي على الإطلاق. فقد بدا لهما فظًّا ومتصلب الرأي، كما لم تعجبهم الوشوم المرسومة على جسده من حياته السابقة والتي لم يتمكن من إزالتها.
بيد أنه كان قادرًا على التأثير على الآخرين وكان نشطًا، وعلى الرغم من أنه لم ينضم إلى تنظيم القاعدة، إلا أنهم أوكلوا إليه في نهاية الأمر مسؤولية معسكر تدريب في هيرات، غربي أفغانستان.
وهناك عمل جنبًا إلى جنب مع مُنظِّر آخر أضحت كتاباته المتشددّة بمثابة مرجع مقدس بموجبه تراق الدماء، وهو أبو عبد الله المهاجر.
كتب المهاجر في كتابه، “مسائل من فقه الجهاد”، الذي يشار إليه بوجه عام باسم “فقه الدماء” إن “قطع الرؤوس بوحشية أمر مقصود بل محبب إلى الله ورسوله”. وتوفر كتاباته الغطاء الشرعي الذي يسوغ جلّ التجاوزات الوحشية فضلًا عن قتل الشيعة، بوصفهم كفارًا، وممواليهم من السنّة، باعتبارهم مرتدين.
والكتاب الآخر الذي ينظر إليه بأنه كتيب إرشادات تنظيم الدولة الإسلامية ومن سبقه من التنظيمات، وربما بمنزلة كتاب “كفاحي”، الذي ألفه هتلر، بالنسبة إلى النازيين، هو كتاب “إدارة التوحش” لأبي بكر ناجي، الذي ظهر على الإنترنت في 2004.
وكتب فيه ناجي: “نحتاج إلى القتل ونحتاج لأن نفعل كما حدث مع بنى قريظة، فلابد من اتباع سياسة الشدة بحيث إذا لم يتم تنفيذ المطالب يتم تصفية الرهائن بصورة مروعة تقذف الرعب”، في إشارة إلى قبيلة يهودية كانت تعيش في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع.
كانت إجازة ناجي للتوحش المثالي جزءًا من استراتيجية أوسع نطاقًا لتمهيد الطريق أمام قيام خلافة إسلامية. فيقدم في كتابه، الذي يقوم جزء منه على الدروس المستفادة أفغانستان، مخططًا تفصيليًا لكيفية استفزاز الغرب حتى يتدخلوا عسكريًا وهذا سيحرّض المسلمين ليحتشدوا للجهاد، مما سيؤدي إلى السقوط الحتمي للعدو.
وهذا المخطط المحتمل ليس محضّ حيال، لو أخذت في الاعتبار أن الاتحاد السوفيتي انهار بعد عامين فقط من انسحابه من أفغانستان.
وقيل أن ناجي قُتل في غارة شنتها طائرة من دون طيار على إقليم وزيرستان الباكستاني عام 2008.
إخفاق العراق المُطبق
في عام 2001، تغيرت أوضاع الجهاديين تغيرًا جذريًا عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول على الولايات المتحدة التي قصفت وحلفاؤها أفغانستان واجتاحت أراضيها، لاستئصال حركة طالبان منها، كما شنّت “حربًا على الإرهاب” أوسع نطاقًا ضد تنظيم القاعدة.
وقد اختبأ بن لادن في الأنفاق، أما الزرقاوي وغيره فقد فرّوا هاربين، وقد ألهّب ذلك حماس المليشيات المتفرقة، الذين احتاجوا بشدة إلى ساحة أخرى للقتال ليستفزوا فيها أعداءهم الغربيين ويواجهونهم.
وكان الحظ حليفهم، فلم يمر وقت طويل حتى منحهم الأمريكيون وحلفاؤهم هذه الفرصة.
فقد اتضح أن غزوهم للعراق في ربيع عام 2003، لم يكن مبررًا على الإطلاق من حيث الدوافع التي اختاروها، فقد تبين أن إنتاج صدام حسين المزعوم لأسلحة الدمار الشامل ودعمه المفترض للإرهاب الدولي لم يكن لهما أي أساس من الصحة.
وبتفكيك كل بنى الدولة والأمن وتسريح آلاف الجنود والمسؤولين السّنة، أوجدوا الدولة “الوحشية” بحذافيرها، أو الفوضى العنيفة، التي تصورها أبو بكر ناجي ليعيش المجاهدون في كنفها.
كان العراق في طريقه إلى أن يصبح ما يطلق عليه المسؤولون الأمريكيون اليوم “الورم الرئيسي” الذي سينتشر منه تنظيم الدولة الإسلامية في المنطقة.
كان السّنة، في ظل نظام حزب البعث الذي كان يقوده صدام حسين بقبضة من حديد، يحتلون مكان الصدارة في العراق عن الأغلبية الشيعة، الذين تربطهم روابط وثيقة بمعتنقي المذهب الشيعي عبر الحدود الإيرانية.
وقد جرّد التدخل العسكري بقيادة الولايات المتحدة السّنة من مزاياهم، مثيرًا بذلك سخطًا عارمًا وموفرًا التربة الخصبة ليضرب الجهاديون السلفيون جذورهم فيها.
وسرعان ما تمكنوا من تمييز مناصريهم. ثم انتقل أبو مصعب الزرقاوي إلى هناك، وفي غضون شهور نظّم هجمات استفزازية طاحنة ووحشية موجهة نحو أهداف غربية والأغلبية الشيعة.
ودخل الزرقاوي، الذي أنشأ جماعة جديدة سميت باسم جماعة “التوحيد والجهاد” في تحالف وثيق مع خلايا سرية من بقايا نظام صدام حسين، ليجتمع ركنا التمرد السني معًا تحت لواء: الجهاد المسلح والقومية العراقية السنية.
وأعلنت جماعته مسؤوليتها عن هجمات عنيفة في أغسطس/ آب عام 2003، مهّدت الطريق للكثير من الهجمات أبرزها: تفجير انتحاري بشاحنة مفخخة بمقر الأمم المتحدة في بغداد أسفر عن مقتل موفد الأمين العام للأمم المتحدة سيرجيو فييرا دي ميلو و20 من الموظفين، وتفجير انتحاري بسيارة مفخخة في النجف أسفر عن مقتل آية الله محمد باقر الحكيم، الزعيم الشيعي البارز، و80 من أنصاره.
وفي حين كان منفذو الهجمات من الجهاديين، قيل أن الدعم اللوجيستي قدمه البعثيون الذين اختبأوا وتواروا عن الأنظار.
وفي العالم التالي، أعتقدت وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي أيه) أن الزرقاوي نفسه كان القاتل المقنع الذي ظهر في مقطع فيديو لذبح الرهينة الأمريكي، نيكولاس بيرغ، ردا على الانتهاكات التي مارسها جنود أمريكيون ضد المحتجزين العراقيين في سجن أبو غريب.
ومع احتدام المعركة ضد الأمريكيين والحكومة العراقية الجديدة التي يهيمن عليها الشيعة، أدى الزرقاوي يمين الطاعة لبن لادن وأضحت جماعته الجناح الرسمي لتنظيم القاعدة في العراق.
ولكن في حقيقة الأمر، لم يكن الرجلان على وفاق. فإن هجمات الزرقاوي الاستفزازية على المساجد والأسواق الشيعية، وما نجم عنها من مجازر طائفية، وشغفه بنشر المشاهد الوحشية المروعة على الملأ، كانت تتوافق مع تعاليمة المتشددة الراسخة في ذهنه. ولكنه كان مدعاةً لاستنكار قيادة القاعدة، التي تخوّفت من وقع ذلك على الرأي العام في العالم الإسلامي.
بيد أن الزرقاوي لم يبد أي اهتمام. وقد انتقل تشدده العنيف والفجّ إلى تابعيه بعد مقتله في غارة جوية أمريكية في يونيو/ حزيران 2006 في مخبأه شمالي بغداد. وكان من السهل التعرف على جسده بالوشوم التي لم يتمكن قط من إزالتها.
وفي غضون أشهر، ظهر تنظيم أطلق على نفسه اسمه “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق” ينضوي تحت لوائه فرع تنظيم القاعدة جنبًا إلى جنب مع غيره من الفصائل المسلحة.
ولكن الطريق كان محفوفا بالصعاب. ففي يناير/ كانون ثاني، 2007 زاد الأمريكيون من عدد قواتهم في العراق إضافة إلى تدريب الجيش العراقي.
كما لجأ الأمريكيون إلى إقناع العشائر السنية في محافظة الأنبار غربي العراق لوقف دعم الجهاديين والانضمام إلى مسعى الحكومة العراقية والتحالف بقيادة الولايات المتحدة لإخماد نشاط المسلحين. وقد انضم إليهم الكثيرون بالفعل، بعد حصولهم على وعود بالحصول على وظائف والسيطرة على أمنهم الخاص.
وحينما قُتل زعيما تنظيمي الدولة الإسلامية في العراق والقاعدة في غارة عراقية أمريكية استهدفت مخبأهما في أبريل/ نيسان 2010، بلغ النشاط المسلح للجماعات المتشددة أدنى مستوياته، وتقهقر إلى مناطق نائية في محافظات تقطنها غالبية سنية في العراق.
وقد خلف زعيمي القاعدة والدولة الإسلامية في العراق، قائد جديد، لم يُعرف عنه آنذاك إلا القليل، هو إبراهيم عواد البدري، وكنيته أبو بكر البغدادي.
وبعد مرور ست سنوات، أعلن البغدادي أنه خليفة المسلمين، وأمير المؤمنين وقائد الدولة الإسلامية.
السيطرة على الأراضي
إن سيرة البغدادي يكتنفها الغموض والكتمان، حتى أنه لا يمكن الاعتداد سوى بعناصر قليلة للغاية منها على أنها حقائق. ولد البغدادي، بحسب جميع الروايات، بالقرب من مدينة سامرّاء، شمالي بغداد، وكُنّى بـ”البغدادي” ربما لإضفاء الصبغة الوطنية على شخصيته، أما لقب “أبو بكر” فهو تيّمنًا باسم أول الخلفاء.
واشتهر البغدادي بأنه ينحدر من قبيلة قريش وربما يكون هذا العامل بالإضافة إلى صغر سنه، ولد عام 1971، سببا في اختياره زعيمًا للتنظيم.
وتتفق جميع الروايات على أنه كان في بداية حياته، هادئًا واسع المعرفة ودارسًا متفرغًا للعلوم الإسلامية، فقد حصل على درجة الدكتوراة من كلية الدراسات الإسلامية بجامعة بغداد. ويذكر البعض أنه كان خجولا، وانعزاليًا إلى حدّ ما، إذ قضى 10 سنوات في غرفة إلى جوار مسجد سنّي صغير غربي بغداد.
ولكن لم يقل عنه أحد قط أنه يتمتع “بالكاريزما”.
من هو زعيم تنظيم الدولة الإسلامية؟
ولكن يبدو أنه كان عضوًا في جماعة سنيّة مسلحة إبان الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003، إذ ترأس حينذاك لجنة الشريعة بهذه الجماعة. وقد اعتقلته القوات الأمريكية، وقيل أنه قضى الجزء الأكبر من عام 2004 محتجزًا في معسكر “بوكا” في الجنوب.
ضم معسكر بوكا، الذي سُمي على اسم رجل إطفاء لقى حتفه في هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، ما يصل إلى 20 ألف نزيل وأضحى بمثابة جامعة تخرّج منها الكثير من قادة تنظيم الدولة الإسلامية وغيرهم من المسلحين المتشددين. فقد أتاح لهم فرصة لا تعوض لتبني الأيديولوجيات المتشددة وتعلم المهارات التخريبية ونشرها فضلًا عن تطوير علاقات وشبكات مهمة من المعارف، وكل ذلك في أمان تام تحت مرأى ومسمع من أعدائهم.
ومما لا شك فيه أن البغدادي قد التقى في معسكر بوكا، الكثير من القادة العسكريين السابقين في حزب البعث، ومع هؤلاء القادة شكّل البغدادي فيما بعد هذه الشراكة المميتة.
لم يثر البغدادي، الذي لم يكن مشهورا آنذاك، أي مخاوف لدى الأمريكان. لذا أطلقوا سراحه بعد أن رأوا أنه لا يمثل أي تهديد أمني كبير.
ولكنه ظلّ يتدرج في سلم القيادة للجماعات المتشددة بعيدا عن أعين الشعب.
وحين أمسك البغدادي بزمام الأمر في 2010، اُسدِل الستار على الجهاديين في ميدان “الوحشية” في العراق.
ولكن ميدانا آخر لـ”الوحشية” انفتح أمامهم عبر الحدود في سوريا المجاورة في وقت مناسب. ففي ربيع 2011، وفرّ اندلاع الحرب الأهلية في سوريا ساحة جديدة واعدة للنزاع والتوسع، حين ثارت الأغلبية السنية على نظام بشار الأسد الاستبدادي، الذي تتولى مقاليد الحكم فيه أقلية علوية.
فقد أرسل البغدادي رجاله إلى هناك، وبحلول ديسمبر/ كانون أول، 2011، شهدت دمشق انفجارات بسيارات مفخخة، تبين فيما بعد أن منفذها هو “جبهة النصرة” التي كانت محاطة بالكتمان والسرية آنذاك ثم أعلنت انتمائها لتنظيم القاعدة في لاحقا،بزعامة الجهادي السوري أبو محمد الجولاني، الذي أرسله البغدادي، إلا أنه كانت لديه أفكاره الخاصة.
وقد حظيت النصرة، التي كانت تزاحم طائفة عريضة من الجماعات المعارضة في سوريا، بدعم كبير على أرض الواقع، لمهاراتها القتالية الفعالة التي تميزت بالجسارة والإقدام، وتدفق الأموال والمقاتلين الأجانب القادمين لدعم الجماعة المنبثقة من القاعدة. وكانت جبهة النصرة تتبنى نهجًا سلفيًا معتدلًا عن غيرها، واستطاعت أن تنمي علاقات محلية.
بدأ تنظيم جبهة النصرة يفلت من تحت سيطرة البغدادي، وهذا لم يعجبه. وقد حاول البغدادي في أبريل / نيسان 2013 استعادة السيطرة عليها، معلنًا أن النصرة تحت قيادته في تنظيم الدولة الإسلامية الجديد في العراق والشام، ومنذ ذلك الحين، ظهر “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا” على الساحة.
ما الذي يحمله الاسم؟
أثار ما يسمي بتنظيم الدولة، طيلة الفترة القصيرة المليئة بالاضطرابات التي فرض فيها نفسه على الساحة متصدرًا عناوين الأخبار، حيرة العالم نظرا لتغييره اسمه بين الحين والآخر، في انعكاس لتغير تطلعاته. لهذا لا يوجد إجماع عالمي بشأن كيفية الإشارة إلى التنظيم.
ففي أعقاب ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، اقتضى انتشاره في سوريا إضافة كلمة “والشام” إلى اسمه.
وقد يؤثر الكثيرون في الغرب استخدام المختصر “IsIs” “أيسيس” باللغة الإنجليزية، إذ يشير حرف “S” الأخير إلى سوريا أو الشام، إلا أن الإدارة الأمريكية اختارت كلمة “ISIL”، إذ يشير حرف L”” الأخير إلى الشام باللغة الإنجليزية.
ويشار إلى التنظيم باللغة العربية باسم “داعش”، ويستخدم المصطلح نفسه في بعض الأحيان في اللغة الإنجليزية، وأصبح مصطلحًا دارجًا تتناقله ألسن الكثيرين من العرب، بيد أن هذا اللقب يبغضه التنظيم نفسه، لأنه يرى أنه يُحقر من شأنه.
فعلى الرغم من أن كلمة داعش ليس لها معنى في اللغة العربية، إلا إنها كلمة ذات وقع منفّر، ولهذا يتعمد الموظفون الرسميون الغربيون والأمريكان استخدامها في الكثير من الأحيان.
وبعد توسع تنظيم الدولة بضم المزيد من الأراضي وزيادة تطلعاته، تخطى التنظيم المساحة الجغرافية وأطلق على نفسه ” الدولة الإٍسلامية”. بيد أن الكثير من دول العالم رفضوا الإشارة إليه بهذا الإسم لدواعِ سياسية، خشية أن يضفي عليه صبغة شرعية.
وقد قررت هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” بشكل عام أن تطلق عليه في أول إشارة في المقال “ما يعرف” أو “ما يسمى” بتنظيم “الدولة الإسلامية”، ثم تنظيم “الدولة الإسلامية” في سائر المقال.
وقد شق الجولاني عصا الطاعة، وجددّ يمين الولاء للقيادة العالمية لتنظيم القاعدة، بزعامة أيمن الظواهري خلفًا لبن لادن بعد مقتله في 2011. وقد أمر الظواهري البغدادي بأن يعود مرة أخرى كتنظيم الدولة الإسلامية في العراق ويترك له جبهة النصرة، لتصبح جناح القاعدة في سوريا لتأتمر بأمرها وحدها.
ولكن البغدادي أعرض عن الأوامر الصادرة من المقر الرئيسي.
وقبيل نهاية 2013، احتدم الخلاف بين تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة، وقد قتل المئات في الصدامات العنيفة بين الفريقين، وتمكنت على إثرها جبهة النصرة وحلفاؤها من الفصائل السورية المعارضة في النهاية من إخراج تنظيم الدولة الإسلامية من جلّ أراضي شمال غربي سوريا.
ولكن تنظيم الدولة الإسلامية سيطر على مدينة الرقة، عاصمة محافظة الرقة في الشمال الشرقي، وجعلها عاصمة له. وقد انتقل الكثير من الجهاديين الأجانب الذين كانوا قد يقاتلون في صفوف جبهة النصرة إلى تنظيم الدولة الإسلامية، لأنهم كانوا يرونه أكثر غلظةً وتشددًا عن النصرة. وفي بداية 2014، تبرأ تنظيم القاعدة من تنظيم الدولة الإسلامية رسميًا.
وتحرر تنظيم الدولة الإسلامية من القيود التي كانت تربطه بالجماعة الأم. إلا أنه خسر الكثير من الأراضي، وكان يحاول أن يكظم غيظه. وكاد شعاره الرئيسي، “البقاء والاستمرار”.
وقد ابتسم الحظ للتنظيم مرة أخرى، إذ تهيأت الأوضاع تمامًا للمجاهدين في العراق. فبعد رحيل الأمريكيين، في نهاية 2011، اشتعلت شرارة الثورة في المناطق السنية مرة أخرى، وذكّت جذوتها السياسات الطائفية لرئيس الوزراء الشيعي، نوري المالكي. إذ أحسّ السنّة أنهم مهمشون ومضطهدون.
وعندما قرر تنظيم “الدولة الإسلامية” التحرك، لم تواجهه أي صعوبات لما لاقاه من تأييد. بل في الواقع، لم يترك التنظيم العراق، إنما كان يعمل في الخفاء. وحين اجتاح تنظيم الدولة المدن والقرى السنية بسرعة أثارت الحيرة، في يونيو/ حزيران 2014، خرجت الخلايا النائمة للمجاهدين السلفيين والمسلحين الذين كانوا تابعين لصدام حسين في السابق، وغيرهم من المتعاطفين معهم من مكانمهم وساعدوهم في بسط نفوذهم.
وبعد الاستيلاء على الموصل، بدأ تنظيم الدولة الإٍسلامية يدخل بسلاسة في مرحلة جديدة. فلم يعد تنظيم الدولة جماعة إرهابية سرية، بل أصبح، على حين غفلة، جيشًا جهاديًا لا يهددّ الدولة العراقية فحسب، بل يتحدى العالم بأسره.
وتمثلت أهم معالم التغيير الذي طرأ على التنظيم، في إعلان “الدولة الإسلامية” في 29 يونيو/ حزيران، لتحل محل كل الأشكال التي اتخذها التنظيم من قبل، وإقامة “الخلافة”. وبعد أيام قليلة، ظهر الخليفة إبراهيم، المعروف باسم أبو بكر البغدادي، ظهورًا مفاجئًا في الموصل على منبر جامع نور الدين الزنجي التاريخي الكبير، ذي التاريخ الحافل بالنضال ضد الصليبين. ودعا مسلمي العالم إلى الاستنفار والقتال في صفوفه.
وبإعلان التنظيم قيام خلافة واستخدام الاسم الشامل “دولة إسلامية”، فقد بات من الواضح أنه كان يضع نصب عينيه غايات أبعد بكثير من سوريا والعراق. لقد أصبح يرمي لتحقيق أهداف عالمية.
فقد كان لإعلان الخلافة أهمية كبيرة وترددت أصداؤه في العالم الإسلامي. فعلى الرغم من أن الخلافة تظل الغاية الكبرى غير أن بن لادن وغيره من زعماء القاعدة تجنبوها خشية الإخفاق. والآن استغل البغدادي ورقة رابحة ليتفوق على الجماعة الأم، ممهدًا الطريق لتنظيم الدولة لينافس القاعدة منافسة الندّ على زعامة الجهاد العالمي.
ومن ثم، فإن تنصيب البغدادي خليفة للدولة الإسلامية يحمل في طياته تطلعًا استثنائيًا.
ويرى أغلب العلماء والمرجعيات الإسلامية، ناهيك عن الزعماء العرب والمسلمين، أن ادعاءات زعيم هذا الفصيل المتطرف العنيف ليست لا أي شرعية على الاطلاق، وما من سبب ملحّ يستدعي الارتماء في أحضان الخلافة الجديدة. بيد أن وقع الخلافة في وجدان جيل الألفية دغدغ عواطف الحالمين الإسلاميين وبعض الجماعات المتشددة التي تتفق معه فكريًا في الخارج.
وبعد أربعة شهور من إعلان الخلافة، كان أول من انضم إلى صفوفها جماعة من المسلحين في ليبيا أعلنت البيعة والولاء للبغدادي، وتلتها بعد شهر واحد جماعة أنصار بيت المقدس الجهادية في شبه جزيرة سيناء في مصر. وتوغلت أذرع تنظيم الدولة الإسلامية في أفريقيا في مارس/ أذار سنة 2015 بإعلان جماعة بوكو حرام في نيجيريا البيعة والولاء. ولم يمرّ عام حتى أصبح لتنظيم “الدولة الإسلامية” أفرع أو أجنحة في 11 دولة، على الرغم من أن الأراضي التي يسيطر عليها لا توجد إلا في خمسة بلدان فحسب، بما فيها العراق وسوريا.
وفي هذين البلدين الرئيسيين، بدأ البغدادي وأتباعه تنفيذ مشروع الدولة على أرض الواقع، بتطبيق نظرته العنيفة للحكم الإسلامي.
وبالنسبة للعالم الخارجي، الذي لا يمكنه الوصول إلى المناطق الخاضعة لتنظيم “الدولة الإسلامية”، فقد أصيب بصدمة وهلع شديدين بسبب الهدم المنظم لمواقع التراث الأثري والثقافي العريقة.
ودُمرت بعض المواقع الأكثر شهرة وإقبالًا، منها معبد بل وبعل شمين في مدينة تدمُر بسوريا، ومدينتا الحضر والنمرود الأشوريتان في العراق.
ولم يقتصر الاعتداء على المواقع الأثرية الشهيرة فحسب، بل دُمرت أيضًا الكنائس والأديرة القديمة، ومساجد الشيعة وأضرحتهم، وكل ما يجسد صور الأشخاص من أي نوع، وأُزيلت النقوش حتى نقوش المساجد السنية.
ولم يكد يمر شهر على الاستيلاء على الموصل، حتى قامت فرق الهدم بتنظيم الدولة الإسلامية بنسف مرقد الإمام عون الدين، الذي يعود بناؤه إلى القرن الثالث عشر وقد صمد أمام غزو المغول.
وكل هذا يتوافق تمامًا مع نهج تنظيم الدولة المتشدد في تطبيق الإسلام، فيحرّمون بموجبه التصوير بأنواعه وبناء الأضرحة بدعوى أنها تقديس لغير الله، وكل ما بناه غير المسلمين ما هو إلا آثار وثنية.
وهذا هو نفس النهج المعمول به في السعودية، فيُدفن ملوكها وأمراؤها حتى هذا اليوم في قبور بلا شواهد.
ومما لا شك فيه، أن تنظيم الدولة الإٍسلامية، بنشره مقاطع فيديو على الانترنت تظهر قيام مسلحيه بأعمال يراها نظر العالم جرائم تخريب متعمد للتراث الحضاري، كان يقصد ترويع العالم. ومن هذا المنطلق، فهذه الأعمال هي المقابل الثقافي لقطع رؤوس موظفي الإغاثة.
وثمة جانب عملي ومربح لهجوم تنظيم الدولة الإسلامية على الإرث الثقافي، إذ يصدر بيت مال المسلمين التابع لتنظيم الدولة، أُذونات كتابية ورقية لنهب المواقع الأثرية، ويحصل على نسبة من الأرباح.
ولكن ما خفيّ كان أعظم، فقد وضع تنظيم الدولة الإسلامية بنية معقدة للحكم والرقابة، منذ أن وطّد التنظيم أقدامه في الأراضي الخاضعة لسيطرته، مكّنته من اختراق كل جانب من جوانب حياة الناس وبالطريقة ذاتها التي كان تعمل بها أجهزة المخابرات العراقية في عهد صدام حسين.
ويُستدل من الوثائق التي حصل عليها ونشرتها مجلة دير شبيغل الألمانية العام الماضي، على دور بعض أعضاء الحزب البعثي السابقين في إقامة تنظيم الدولة وإداراته على نحو فائق التنظيم والتنسيق، مع منح قدر كبير من الاهتمام للاستخبارات والأمن.
أدرك سكان المناطق السنية، كالموصل والفلوجة في العراق، والرقّة في سوريا، أن عملاء تنظيم الدولة الإسلامية السريين، يعلمون كل صغيرة وكبيرة تقريبًا عن كل شخص، منذ أن انتقلوا إلى أراضيهم وسيطروا عليها عام 2014.
وفي نقاط التفتيش، يتحقق مسلحو التنظيم من بطاقات الهوية بقاعدة البيانات المحفوظة على أجهزة الكومبيوتر المحمولة لاب توب التي حصلوا عليها من الهيئات الحكومية أو من سجلات الموظفين.
وكان لزامًا على الأعضاء السابقين في قوات الأمن الذهاب إلى مساجد خاصة لإعلان “التوبة”، وتسليم أسلحتهم ثم يتلقوا بعدئذ ورقة تفيد بالعفو عنهم.
وقال أحد سكان الموصل، فرّ من هناك بعد عام واحد: “في البداية، كل ما فعلوه هو أنهم غيروا أئمة المساجد وجاؤوا بأناس يتبنون نفس آرائهم”.
وتابع: “ولكنهم أحكموا قبضتهم بعد ذلك، فلم يعد مسموحًا للنساء غير المحجبات بالخروج من دون حجاب أولًا ثم النقاب لاحقًا. كما أمروا الرجال بإطلاق اللحى وارتداء السراويل القصيرة، وحظروا السجائر والنرجيلة والموسيقى والمقاهي، ثم أتبعوا ذلك بقرار يحظر مشاهدة التلفاز واستخدام الهواتف المحمولة. وتجوب مركبات الحسبة (رجال شرطة الأداب) الشوارع بحثًا عن مخالفين”.
ويسرد أحد سكان الفلوجة وقائع قصة سائق سيارة أجرة أقلّ شابة في منتصف العمر لا ترتدي الحجاب، ثم أوقفتهما إحدى نقاط تفتيش تنظيم الدولة الإسلامية، وأعطوا للفتاة خمارًا ثم تركوها تمضي، أما السائق فقد أُرسِل إلى محكمة إسلامية وحُكم عليه بالسجن شهرين وحفظ جزء من القرآن، مع تكرار العقوبة إن لم يكمل حفظه.
وتابع ساكن الفلوجة: “لديهم محاكم بها قضاة وموظفون رسميون وسجلات وملفات، وتوجد عقوبات محددة لكل جريمة من الجرائم، فالأمر لا يدار بعشوائية. فالزناة يُرجمون حتى الموت، والسارقون تُقطع أيديهم، وينفذ حكم الإعدام في المثليين جنسيًا بإلقائهم من بنايات عالية. ويُعدم الوشاة رميًا بالرصاص، أما السجناء من المليشيات الشيعية فتقطع رؤوسهم”.
ويُحكم تنظيم الدولة الإسلامية سيطرته، من خلال إدارات تابعة له، على جميع مناحي الحياة، بما فيها المال، والزراعة والتعليم والنقل والصحة والرعاية الاجتماعية والمرافق.
وعُدِلت المناهج الدراسية تعديلًا شاملًا لتتماشى مع تعاليم ومعتقدات تنظيم الدولة الإسلامية، إذ أعيد كتابة التاريخ وأُزيلت جميع الصور من الكتب المدرسية، ولم يعد للغة الإنجليزية مكان في المناهج.
قال ساكن الموصل: “الشيء الوحيد الذي يمكنك أن تقوله، هو أنه لا يوجد فساد قطّ، ولا توجد وساطة، فهم على يقين تام من أنهم يسيرون على الطريق الصحيح”.
وثمة قصة حديثة تكشف الكثير عن تنظيم الدولة الإسلامية والطرق التي يتّبعها.
حين كانت قوات الأمن العراقية تزحف باتجاه الأراضي المحيطة بالرمادي، في بدايات هذا العام، كان المدنيون يفرّون من المعركة، وكذلك كان مقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية يهربون منها بعد هزيمتهم.
هرعت إمرأتان، لاذتا بالفرار من ساحة القتال، إلى نقطة التفتيش التابعة للشرطة.
وحين لوّح لهن رجال الشرطة ليعطيهن الأمان، استدارت إحداهن فجأة نحو رجال الشرطة، وأشارت إلى الأخرى قائلة: “هذه ليست إمرأة، بل هو أحد أمراء تنظيم الدولة الإسلامية”.
وتحرى رجال الشرطة الأمر، واتضح أنها صادقة، فلم تكن المرأة الأخرى سوى رجل، حلق ذقنه، ووضع مساحيق زينة وارتدى زيا نسائيا. وتبين أن هذا الرجل يتصدر قائمة أمراء تنظيم الدولة الإسلامية المطلوبين للعدالة.
وقالت هذه المرأة للشرطة “عندما وصل تنظيم الدولة الإسلامية، قتل هذا الأمير زوجي، الذي كان شرطيّا، واغتصبني، ثم اتخذني زوجة له. وقد تحمّلت البقاء معه مع طيلة هذا الوقت، حتى أثأر لزوجي ولشرفي. ولذا، استدرجته ليحلّق ذقنه ويضع مساحيق الزينة، ثم أبلغت الشرطة عنه”.
بعد أن استولى المسلحون على مساحات شاسعة من الأراضي العراقية على إثر الهجوم الكاسح الذي شنّه في يونيو/ حزيران 2014، كان من المتوقع أن يهدأوا لتعزيز مكاسبهم.
بيد أن تنظيم الدولة كان كسمك القرش، الذي لو توقف عن الحركة سيموت على الفور، فلم يكد يتوقف حتى بدأ سلسلة جديدة من الأعمال الاستفزازية والانتقامية، كان متوقعًا أن تضعه في مواجهة مع القوى العظمى في العالم.
دقّ الهجوم الذي شنه تنظيم الدولة الإسلامية ناقوس الخطر بالفعل خشية الاقتراب من بغداد، مما دفع بالأمريكيين إلى الاستعانة بخبرات مئات المستشارين والمدربين العسكريين لمعرفة كيفية مساعدة الجيش العراقي.
وبعد شهرين فقط، في أعقاب الهجوم الذي شنه تنظيم الدولة على الأراضي الكردية في الشمال، شنّت الولايات المتحدة غارات جوية دفاعًا عن العاصمة الكردية إربيل، ثم المساعدة في وقف الإبادة الجماعية للإيزيديين. ثم انضمت 14 دولة فيما بعد للحملة الجوية.
وبعد عشرة أيام، قطع تنظيم الدولة الإٍسلامية رأس جيمس فولي وآخرين من بعده، تماشيًا مع مذهب الوحشية الرادع من أجل العقاب والتنكيل والاستفزاز. ولكن أشد الفظائع هولًا حدثت بعد بضعة أشهر، حين حُرِق الطيار الأردني معاذ الكساسبة الذي أُسقطت طائرته حيًا. وكان الترويع مقصودًا.
وتوسعت الحملة العسكرية بقيادة الولايات المتحدة لتمتد إلى سوريا في سبتمبر/ أيلول 2014 بعدما حاصر تنظيم الدولة الإٍسلامية بلدة كوباني (عين العرب) الخاضعة لسيطرة الأكراد على الحدود التركية.
وهناك غيرت الغارات الجوية للتحالف مجرى الأحداث، إذ خسر تنظيم الدولة الإٍسلامية مئات المقاتلين الذين قتلوا في كوباني وغيرها من الأماكن. وبدأ تنظيم الدولة يدعو إلى المزيد من العمليات الانتقامية، وانتشرت دعوته على نطاق واسع.
فمنذ إعلان الخلافة حتى بدايات عام 2016، وقع نحو 70 هجومًا إرهابيًا نفذهم مسلحو تنظيم الدولة أو متعاطفين معه في 20 دولة حول العالم، من كاليفورنيا إلى سيدني، وقدر عدد القتلى بنحو 1200 ضحية. وحملت الهجمات نفس رسالة العقاب والردع والاستفزاز بقطع رؤوس الرهائن، مع البرهنة على امتداد نفوذ تنظيم الدولة الإسلامية عالميًا.
وفي الوقت نفسه، نفذ تنظيم الدولة عقيدة المسلحين التي تقتضي تشتيت العدو بإضرام النيران في مواقع متفرقة حتى يبدّد موارده بحثًا عن الأمن. ويرى تنظيم الدولة الإٍسلامية أن العدو هو كل من ينضم إلى الدولة الإسلامية. فالعالم ينقسم إلى دولة الإسلام ودولة الكفر.
ومن أبرز الفظائع التي ارتكبها التنظيم وأفدحها كان إسقاط الطائرة الروسية على سيناء في 31 أكتوبر/ تشرين أول، وتلتها هجمات باريس في 13 نوفمبر/ تشرين ثان، مستفزًا روسيا وفرنسا لتكثفا غاراتهما الجوية على أهداف تنظيم الدولة الإٍسلامية في سوريا.
هل جنّ جنون تنظيم الدولة الإسلامية؟ لقد بدا أنه عازم على تحدي العالم بأسره. فقد كان يدفع الأمريكيين والروس والكثير من البلدان الأخرى دفعًا لمواجهته. على الرغم من أنه ليس لديه من المقاتلين، تحت إمرته، سوى 40 ألف مقاتل، بحسب رواية التنظيم، في حين تشير تقديرات أخرى إلى أن عدد المقاتلين أقل من نصف هذا العدد.
هل سيتمكن حقًا من تحدي القوى العالمية وينجو من عاقبة المواجهة؟ وهل سيفي الرئيس باراك أوباما بوعده بأن “يضعف (تنظيم الدولة) ثم يدحره في نهاية الأمر” ؟.
المواجهة الحاسمة
إذا كان هناك ما يوحي بأن تحدي تنظيم الدولة على نحو يقود العالم إلى شفير الهاوية، فإن الأمر كذلك بالفعل.
حين أصدر التنظيم أول مجلة له عبر الإنترنت، التي كانت بمثابة الأداة الرئيسية لاستعراض القوة والتجنيد، بعد شهر واحد من إعلان “الخلافة”، لم يكن اختيار الاسم (دابق) من قبيل المصادفة.
ذُكرت دابق، وهي مدينة صغيرة شمالي حلب، في حديث للنبي، يشير إلى إحدى علامات الساعة التي تسبق نهاية العالم وفقًا لمعتقدات تنظيم الدولة.
ويُستهل كل عدد من أعداد دابق باقتباس من أبي مصعب الزرقاوي: “وها هي الشرارة قد انقدحت في العراق وسيتعاظم غُبارها بإذن الله حتى تحرق جيوش الصليب في دابق”.
إن فكرة المشاركة في هذه الملحمة الكبري النهائية لتحقيق الشهادة في سبيل الله والفوز بالجنة، هي إحدى الأفكار التي تبعث الحماسة في نفوس أولئك الذين يهتمون بدعوة تنظيم الدعوة الإسلامية إلى الجهاد.
وهذا يفسر لماذا يستقطب التنظيم المزيد والمزيد من المجندين الذين لا يبالون بتفجير أنفسهم في هجمات إنتحارية، يسميها التنظيم “عمليات استشهادية”.
وقد لقي المئات حتفهم بهذه الطريقة، وتحدث هذه العمليات يوميًا تقريبًا.
ويعد هذا من العناصر التي تزيد صعوبة قتال تنظيم الدولة الإسلامية.
الانتحاريون وتنظيم الدولة
يسرد مسرور برزاني، رئيس الأمن والاستخبارات في الحكومة الكردية شمالي العراق، قصة انتحاري أصيب بالخيبة والإحباط حين لم تفلح محاولته لتفجير نفسه وصاح في معتقِليه “لقد كنت على بعد 10 دقائق فقط من صحبة النبي محمد”.
ويقول برزاني “يظنون أنهم فائزون سواء قتلوك أم قُتلوا. فإذا قتلوك، فقد فازوا في المعركة، وإذا قُتلوا فازوا بالجنة. ومن الصعوبة بمكان أن تمنع أناس يفكرون بهذه الطريقة من مهاجمتك. ولذا، فالطريقة الوحيدة للانتصار عليهم هي استئصالهم”.
ربما لأول مرة في التاريخ العسكري، منذ وحدات الكاميكاز اليابانية الخاصة في الحرب العالمية الثانية، يستخدم تنظيم الدولة الإسلامية مفجرين انتحاريين، ليس فقط في الهجمات الإرهابية الكبيرة اللافتة للأنظار التي يشنها بين الحين والآخر، ولكن كإحدى الاساليب العسكرية المعتادة التي يستخدمها في ساحة المعركة.
وتبدأ معظم هجمات تنظيم الدولة باقتراب سيارات أو شاحنات مفخخة يقودها مفجر انتحاري من الهدف، تمهيدا لدخول المسلحين. ولهذا السبب، أطلق على “طالبي الاستشهاد” “سلاح الجو” للتنظيم، لأنهم يقومون بنفس الدور الذي يقوم به سلاح الجو.
وما يجعل التنظيم صعب المراس، هو أنه كقوة قتالية أقوى بكثير من مجرد شرذمة من المتعصبين الهائجين المتلهفين لتفجير أنفسهم. ويرجع الفضل في ذلك إلى صدام حسين.
ويقول مسؤول استخباراتي عالمي “إن ضباط الاستخبارات والجيش السابقين إبان حكم صدام حسين، ولا سيما رجال الحرس الجمهوري، هم عماد تنظيم الدولة الإٍسلامية. فهم بارعون في نقل الأشخاص المنتمين لهم من مكان لآخر، وإعادة إمدادهم بالعتاد وما إلى ذلك، وفي الحقيقة، هم أكثر كفاءة وفعالية من الجيش العراقي، فكل هذا من تدبير ضباط الجيش العراقي السابقين، لما لهم من باع طويل في هذا المجال”.
ويضيف مسرور برزاني “يتمتع جنود هذا التنظيم بمهارة عالية. فهم يستخدمون المدفعية والمدرعات والمعدات الثقيلة، وما إلى ذلك. ويجيدون استخدامها. فإن لديهم ضباط على دراية بالحرب التقليدية ويعرفون كيف تُخطط وكيف تهجم وتدافع. فإن القوات التابعة للتنظيم تدار بمستوى لا يقل عن مستوى أي قوات تقليدية عالية التنظيم. فلولا مساعدة هؤلاء الضباط لكان تنظيم الدولة الإسلامية مجرد تنظيم إرهابي”.
لم يكن تنظيم الدولة الإٍسلامية ليحقق هذا النجاح لولا دخوله في شراكة مع أعضاء حزب البعث السابقين، التي تمتد جذورها إلى بداية قدوم الزرقاوي إلى العراق.
ولكن هذا لا يعني أن مقاتليه لا يقهرون في ساحة القتال، فقد تصدى لهم الأكراد في شمال شرقي سوريا من دون مساعدة من الخارج طيلة عام قبل أن يلاحظ أحد. وحتى الآن، يرتكب تنظيم الدولة الإسلامية أخطاءً، تعد في المعتاد، أخطاء فادحة.
في ديسمبر/ كانون أول، فقد التنظيم المئات من المقاتلين في هجوم واحد شرقي الموصل باء بالفشل، وربما وصل عدد القتلى في صفوفهم إلى 2500 ذاك الشهر. وإجمالًا، قّدر عدد قتلى الغارات الجوية التي شنّها التحالف بنحو 15 ألف قتيل منذ أغسطس/ آب 2014.
ويبدو أنهم لا يجدون صعوبة كبيرة في تعويض خسارتهم. فبهذا العدد من السكان السنّة الذي يناهز 10 ملايين نسمة، يأتمرون بأمر التنظيم ويمكنه الاستفادة منهم في سوريا والعراق، يجند التنظيم أغلب مقاتليه من الداخل. وإذا ظل تنظيم الدولة الإسلامية باقيًا، فسيأتي قريبًا جيل جديد من شباب المسلحين.
وقال بكر مدلول، الذي يبلغ من العمر 24 عامًا، إنه لم “ينضم إلى التنظيم عن قناعة”.
وألقت السلطات القبض على مدلول في ديسمبر/ كانون أول في منزله في حي سني جنوبي بغداد بتهمة الضلوع في هجمات لتنظيم الدولة الإسلامية بسيارة مفخخة استهدفت مناطق شيعية وقد أقر بتهمته.
ويروي مدلول أنه “كان يعمل مراقب عمال إنشاءات في كردستان، عندما سيطر تنظيم الدولة الإسلامية على الموصل. وقد احتجزه الأمن الكردي على ذمة التحقيق، وفي السجن، التقى أحد المسلحين الذي أقنعه بالذهاب إلى الموصل، حيث انضم إلى تنظيم الدولة الإسلامية وكان يقف على نقطة تفتيش حتى قُصفت في غارة جوية شنتها قوات التحالف”.
ثم أرسله التنظيم إلى بغداد للمساعدة في تنظيم هجمات بسيارات المفخخة. فكانت تُرسل المركبات المحملة بالمتفجرات من خارج بغداد، وكانت مهمته أن يضعها حيث يأمره المراقب، وعادةً ما يكون ذلك في الشوارع أو الأسواق المكتظة بالناس.
ويقول مدلول: “من بين السيارات المفخخة الخمس التي كلفت بوضعها، لم يقد مفجر انتحاري إلا سيارة واحدة فقط منها. وتحدثت إليه، كان شابًا في الثانية والعشرين من عمره، يؤمن بأنه سيدخل الجنة عندما يموت. وهذا أسهل وأسرع طريق لدخول الجنة. لديهم إيمان راسخ بأن هذا سيحدث لا محالة. فقد يقدمون على تفجير أنفسهم طمعًا في الجنة. ويوجد من هم أكبر منهم سنًا في الثلاثينيات والأربعينيات من العمر”.
وتابع: “سألت القادة أكثر من مرة، هل يجوز قتل النساء والأطفال؟ وكانوا يجيبون، كلهم سواء، ولكنني لم أشعر بالراحة على الإطلاق حيال قتل النساء والأطفال، ولكن بمجرد أن تنضم إليهم، فستظل عالقًا، ولو حاولت التملص منهم، سيقولون أنك مرتد، وسيقتلونك أو يقتلوا عائلتك”.
يدرك بكر أنه سيحكم عليه بالإعدام. وسألته إن عاد به الزمن إلى الوراء، هل سيفعل هذا مرة أخرى. فتبسم ضاحكًا.
وقال: “بالطبع لا، سأخرج من العراق، بعيدًا عن تنظيم الدولة الإسلامية وعن قوات الأمن. لقد اتخذت هذا المسار دون أن أدرك العواقب. فهو طريق بلا عودة. أدركت ذلك الآن”.
ولكن شمالًا في كردستان، يوجد سجين آخر من تنظيم الدولة الإسلامية، مهند إبراهيم، لا يشعر بأي ندم.
مهند إبراهيم، البالغ من العمر 32 عاما، كان يعيش في قرية قريبة من الموصل مع زوجته وأطفاله الثلاثة، وكان عامل بناء لدى شركة تركية عندما بسط تنظيم الدولة الإٍسلامية نفوذه على المدينة. وقتل أخواه الأكبر سنًا في معارك ضد القوات الأمريكية في المدينة ما بين عامي 2004 و2006. ثم انضم إلى تنظيم الدولة الإسلامية بلا تردد وكان يتولى قيادة كتيبة صغيرة حين أُسِر في معركة مع الأكراد.
يقول إبراهيم: “كنا مضطهدين من الشيعة، كانوا دومًا يهينوننا ويسببون لنا المتاعب. ولكن ليس هذا الدافع الرئيسي، فالقناعة الدينية أهم، وكل عائلتي متدينون والحمد لله. وقد انضممت إلى تنظيم الدولة الإسلامية بإيماني ومبادئي الدينية”.
وتابع: “وإذا عاد بي الزمن إلى الوراء، سأسلك السبيل نفسه، وأُقدم على نفس الخيارات. فأنا على قناعة بهذا الأمر، وعلى أن أواصل حتى النهاية، إما أن أُقتل، أو ألقى ما كتب الله لي”.
ترويض الموصل
إن هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية عسكريًا لا تتعلق بمدى قوة التنظيم أو ضعفه، بقدر ما تتعلق بالخلل في القوات التي اصطفت لمواجهته. فقوة التنظيم تكمن في ضعف الدول الفاشلة التي تركت بإنزلاقها إلى حالة من “الوحشية” مساحة للتنظيم لكي يتأصل وينمو.
وكما قال قائد قوات التحالف الفريق شون ماكفارلند في فبراير / شباط 2016 ، إنه يجب وضع العراق وسوريا في بؤرة الاهتمام.
وأوضح ماكفارلند “تتمثل الحملة في ثلاثة أهداف: الهدف الأول هو استئصال الورم الرئيسي لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا من خلال تدمير مراكز قوته في الموصل والرقة، والهدف الثاني هو محاربة الخلايا السرطانية الناشئة الناتجة عنه حول العالم، أما الهدف الثالث فهو حماية دولنا من أي هجوم”.
ومما لا شك فيه، أن الغارات الجوية التي تشنها قوات تحالف، مهما كانت فتّاكة وفعالة، فإن لها حدود. فلا يمكن استعادة الأراضي التي سيطر عليها التنظيم من دون التنسيق مع قوات أرضية متماسكة وذات همة عالية. وهذه هي العقبة في العراق وسوريا.
لقد أحرز الأكراد في شمال العراق وسوريا تقدما كبيرا في دحر تنظيم الدولة الإسلامية من المناطق التي يعتبرونها خاضعة لهم، وذلك بمساعدة الغارات الجوية. ولكنهم لا يستطيعون طرد تنظيم الدولة الإسلامية من كل الأراضي التي يسيطرون عليها في البلدين، ولا يُنتظر منهم أن يقوموا بذلك، لأنهم سيثيرون حينئذ حساسيات شديدة لدى السكان العرب السنة الذين يعيشون في مناطق بسط التنظيم فيها نفوذه.
وطردت القوات الموالية للحكومة العراقية تنظيم الدولة الإٍسلامية من مساحات كبيرة من محافظة ديالى ومن منطقة تكريت شمال العاصمة بغداد، لكن هذا الإنجاز تحقق بفضل قوات الحشد الشعبي التي بادرت إلى الدفاع عن بغداد والجنوب عندما تقدم تنظيم الدولة الإسلامية صوب المناطق الجنوبية في يونيو / حزيران 2014 بعد انهيار قطاعات الجيش.
بيد أن الاعتماد على هذه الميليشيات في المناطق ذات الأغلبية السنية محفوف بالمخاطر.
وفي نهاية العام 2015، استعيدت السيطرة على مدينة الرمادي، عاصمة محافظة الأنبار، غربي العراق، في هجوم بقيادة قوات مكافحة الإرهاب الحكومية، التي دربتها الولايات المتحدة، وكان عليهم إبعاد قوات الحشد الشعبي عن هذا المعقل السني. ولكن قوات مكافحة الإرهاب محدودة العدد وتكبدت خسائر جسيمة. وتعرضت الرمادي لدمار كامل جراء المعارك وفر منها جميع سكانها.
لكن كل هذه المقدمات لا تبشر باستعادة السيطرة على سائر المناطق ذات الأغلبية السنية في العراق، حيث رسّخ تنظيم الدولة الإٍسلامية أقدامه، مثل مدينة الفلوجة، التي تبعد ٣٠ ميلا فقط من بغداد، وبالطبع الأهم من هذا كله، مدينة الموصل، وهي أكبر عشر مرات من الرمادي.
واللافت أن فرص تحقيق تقدم حقيقي ضد تنظيم الدولة الإسلامية قد تكون أكبر في سوريا، وذلك نظرا لوجود مئات الفصائل المتحاربة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وإن كانت هذه الفرص غير قوية بدرجة كافية.
وقد حفزت حتمية مواجهة تنظيم الدولة الإٍسلامية جميع الأطراف الخارجية المنخرطة في سوريا، ومن بينهم الأمريكيون والروس والحلفاء المحليون والإقليميون، ليلقوا بثقلهم للمرة الأولى خلف هدنة والتفاوض من أجل التوصل إلى تسوية بين المتمردين والنظام.
والفكرة والأسباب الرئيسية وراء ذلك هي أن يتفرغ وقتذاك جميع الأطراف لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية، على أن يحاربوا أيضًا تنظيم جبهة النصرة، تجنبًا للتعارض، كونه تابعا للقاعدة. وقد يبدو الأمر بعيد المنال، ولكن الولايات المتحدة تبذل قصارى جهدها لتحقيق أشياء أثبتت طيلة خمس سنوات أنها تستعصي على التحقيق.
وإذا سوى جميع الأطراف، أي المتمردون، والأكراد، والقوات النظامية، والميليشيات، وحلفاؤهم من الخارج بما فيهم قوات التحالف والروس، خلافاتهم، بقدر المستطاع، ووحدوا جهودهم ضد تنظيم الدولة، فلعل ذلك يقلص احتمالات بقاء التنظيم في سوريا لمدة أطول.
فإن تنظيم الدولة الإٍسلامية في سوريا لا يتمركز إلا في مدينة الرقة. إذ لم يرسّخ نفوذه في المجتمع السني في سوريا بقدر ما رسّخه في العراق، لأن السوريين الناقمين على النظام لهم طرق متعددة للتعبير عن سخطهم عليه.
لذا فالأنظار تتجه مجددا صوب العراق وتحديدا الموصل، التي تبلغ مساحتها عشر مرات مساحة الرقة. لكن ليس هذا هو السبب الوحيد لأهميتها.
يقول مسؤول غربي رفيع المستوى في شمال العراق إن “الموصل هي قلب تنظيم الدولة الإسلامية النابض، بل في واقع الأمر، تنظيم الدولة الإسلامية عراقي المنشأ. والحقيقة المأساوية هي أنه بات الكيان السياسي السني الرئيسي في العراق في الوقت الراهن. وفي حين ينظر إليه الغرب على أنه لا يعدو كونه جماعة من المتطرفين المهووسين، فإن هذا هذا ليس صحيحا بالمرة”.
وتابع: “هذا لا يعني أن أهل الموصل متحمسون لوجود تنظيم الدولة الدولة الإسلامية، ولكنه، من وجهة نظرهم، أفضل من أي شئ يأتي من بغداد”.
وثمة أنباء في بغداد وشمال العراق أن الأمريكيين يسعون لشن حملة لاستعادة الموصل بنهاية العام 2016، مع الأخذ في الاعتبار نهاية الفترة الرئاسية للرئيس أوباما. ولكن قد لا يكون الأمر ممكنا نظرا لصعوبة إنشاء قوات برية يمكن الاعتماد عليها، فضلا عن وجود أزمات مالية خانقة تؤثر على كل من بغداد وكردستان العراق.
لكن إذا نُفِذت الحملة، ثمة مخاوف من أن يتحول الانتصار الزائف قصير الأمد، لو تحقق بالفعل، إلى كارثة طويلة الأمد، في ظل غياب المصالحة الوطنية بين السنة والشيعة منذ أعمال العنف الطائفي التي حدثت عقب الإطاحة بصدام حسين عام 2003.
ويتمثل سخط السنة في العراق في أنه لو لم يكن تنظيم الدولة الإسلامية موجودًا بالفعل، لظهر التظيم ذاته أو نظير له. ففي ظل غياب المصالحة، وعدم شعور السنة بالتمكين والشراكة في مشروع قومي، سيبقى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق في أي صورة كانت، كما هو الحال مع حركة طالبان التي استعادت قوتها ونشاطها في الآونة الأخيرة في أفغانستان على الرغم من كل ما بُذل من جهود لاستئصالها.
لكن الخبير العراقي في شؤون الحركات المتطرفة، هشام الهاشمي، يرى أن تنظيم الدولة الإسلامية قد يتكبد خسائر فادحة إذا نجح التحالف في إنجاز مهمة واحدة ذات أولوية هي قتل أبو بكر البغدادي.
فقد قُتل زعماء جماعات من قبل، وحل محلّهم أخرون، ولم يؤثر ذلك بشكل يذكر على مجرى التاريخ. ولكن الهاشمي يعتقد أن الأمر يختلف مع قتل البغدادي.
ويقول الهاشمي “يتوقف مستقبل تنظيم الدولة الإسلامية على البغدادي، فإذا قتل، سينقسم التنظيم على نفسه. فسيؤثر البعض استكمال المسيرة وإعلان إنشاء خلافة جديدة، وسيعلن البعض انشقاقهم ويعودوا للانضمام إلى تنظيم القاعدة، وسيتحول البعض الآخر إلى عصابات تناصر الفصيل الأقوى على الساحة، أيًا كان”.
وتابع: “تكمن قوة البغدادي في أنه هو الذي أحدث تحولًا إيدولوجيًا، مازجًا بين الأفكار الجهادية والطرق الأمنية لجهاز المخابرات العراقية إبان حكم حزب البعث، وتمخض عن ذلك تنظيمًا أشبه بالدولة”.
يعتقد الهاشمي أن البغدادي هو الشخص الوحيد الذي يستطيع الحفاظ على وحدة التنظيم. وقد تناقلت الألسن أنباء لا أساس لها من الصحة تفيد بإصابة البغدادي، ولكن يبدو أنه أفلت من الموت ومتمسكًا بالحياة، وإن كان لم يظهر على الملأ منذ ظهوره في أحد المساجد في مطلع يوليو / تموز 2014.
ولن يهدأ الأمريكيون حتى يتمكنوا من قتل البغدادي، ولا سيما، لأنهم يعتقدون أنه اغتصب بنفسه مرات عدة كايلا مولر، الموظفة في منظمة إغاثة أمريكية غير حكومية، ثم أمر بقتلها في مطلع عام 2015.
ولكن حتى لو تمكنوا من قتله، وحتى لو انفرط عقد التنظيم، لن تنتهي المعضلة السنية في العراق.
استغلال الفوضى
إن تنظيم الدولة الإٍسلامية لديه خطط متعددة وأراضٍ بديلة يمكنه الاختيار من بينها. وفي الوقت الحالي، تعد ليبيا الخيار الأنسب لإقامة الدولة. فقد عمّت في ليبيا الفوضى التي تميز الدول الفاشلة، أو بالأحرى “الوحشية”، التي يريدها التنظيم، وبات الطريق ممهدا لانتقال الجهاديين إليها، وإقامة تحالفات مع مسلحين محليين ومؤيدي النظام السابق الغاضبين، مثلها مثل العراق تماما.
وقد أعلن التنظيم عن حضوره إلى ليبيا بطريقته المعتادة، إذ بث شريط فيديو في فبراير / شباط 2015 يظهر قطع رؤوس 21 عاملًا مصريا قبطيا يرتدون سترات برتقالية على أحد الشواطئ الليبية، واختلطت دماؤهم بمياه البحر المتوسط تحذيرًا للدول الأوروبية “الصليبية” على الضفة المقابلة.
يُعتقد أن الرجل الذي قرأ التحذير بصوته هو زعيم تنظيم الدولة في ليبيا وهو عراقي يدعى وسام الزبيدي، ويُكنّى بأبو نبيل. وبمحض الصدفة، قتل الزبيدي في غارة أمريكية في نفس اليوم الذي نفذ فيه التنظيم عمليات إرهابية في باريس، في 13 نوفمبر/تشرين ثان 2015.
ثم أرسل التنظيم رجلا يدعى أبو عمر الجنابي لخلافة الزبيدي، وهو عراقي أيضًا كان ينتمي لحزب البعث وقد ذاع صيته لمهارته في جني العوائد المالية، وهذا يدل على أن التنظيم يضع المنشآت النفطية في ليبيا نصب عينيه، نظرًا لما ألحقته غارات التحالف من دمار بالحقول النفطية التي كان يستغلها التنظيم في العراق وسوريا.
وعجزت الولايات المتحدة والحلفاء عن وقف تقدم تنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا، فقد استحوذ على مساحات شاسعة من الساحل حول مدينة سرت في وسط ليبيا، التي كانت تمثل للزعيم الليبي الراحل معمر القذافي الأهمية نفسها التي مثلتها تكريت لصدام حسين.
وقتلت غارة جوية أمريكية أخرى في فبراير / شباط نور الدين شوشان، الذي أشيع أنه عضو تنظيم الدولة المسؤول عن الهجمات الدامية على السائحين الغربيين في بلده الأم تونس المجاورة لليبيا.
ومع قلة فرص التوصل إلى حكومة وحدة وطنية في ليبيا لإنهاء حالة التشظي الفوضوية وتقديم شركاء فعليين هناك، فستظل هذه الغارات التي تشنها القوى الغربية المحبطة من مكان قصي، والتي يستخدمها المسلحون كوسيلة ناجعة للتجنيد، هي أقصى ما تستطيع فعله، بينما يضرب التنظيم جذوره ويتوسع في ليبيا.
وتوجد مناطق بها من العوامل ما يجعلها تربة خصبة لتجنيد المزيد من المسلحين، مثل اليمن وأفغانستان وباكستان والصومال، فأينما توجد دول عاجزة ومسلمون غاضبون، توجد فرص سانحة أمام تنظيم الدولة الإسلامية، ليتنافس بقوة مع تنظيم القاعدة الذي تضاءل ووهنت عزيمته، فارضًا نفسه كأقوى المنافسين من بين الجماعات الجهادية.
هذا بالإضافة إلى المخاطرة الإضافية أمام الغرب، التي تتمثل في أن هذه المنافسة قد تكون حافزًا لشن هجمات إرهابية للفت الأنظار، والتي تدرك الدول الغربية أن التنظيم بدأ التخطيط لها بالفعل.
معركة لكسب العقول
في الثمانية عشر شهرا الأولى التي أعقبت إعلان “قيام تنظيم الدولة الإسلامية” ارتفع عدد المقاتلين الأجانب الذين توافدوا إلى سوريا والعراق للانضمام إلى صفوف المجاهدين بشكل كبير.
وبحسب تقديرات منظمة سوفان للاستشارات الأمنية في مدينة نيويورك وصل عدد المجاهدين الأجانب إلى 27 ألف مقاتل قادمين من 86 دولة، ينحدر ما يزيد عن نصفهم من دول في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
ومن الواضح أن فكرة الخلافة كان لها وقع وجاذبية لدى هؤلاء المجاهدين، على الرغم من العمليات الوحشية التي يروج لها التنظيم علانية، والتي ربما كانت السبب الرئيسي لاستقطاب البعض.
ويعود الفضل في ذلك إلى المهارة الفائقة التي يتمتع بها أفراد التنظيم في استخدام الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي كوسيلة للترويج والتدريب والتأهيل.
وبعد عشرة أشهر من تعهد الرئيس أوباما بـ”إضعاف ومن ثم تدمير” تنظيم الدولة الإسلامية “في نهاية الأمر”، أقر أوباما في نبرة اكتساها الأسف أن تنظيم الدولة الإسلامية “تمكن بفعالية من الوصول إلى أُناس يسهل استدراجهم من حول العالم حتى داخل الولايات المتحدة، وتمكن من تجنيدهم، ويستهدف التنظيم حاليًا المجتمعات المسلمة في العالم بأسره”.
وأدرك الرئيس الأمريكي التحدي الرئيس الذي يواجهه، وهو أكثر جسامة بمراحل مقارنةً بالمهمة الأيسر وهي هزيمة التنظيم عسكريا. فقد قال أوباما: “لا تُهزم الإيدولوجيات بالأسلحة، بل تُهزم بأفكار أفضل، أي رؤية أكثر جاذبية وإقناعًا”.
الصيد والعنف المفرط
تكمن المشكلة في أنه عندما ينظر أناس محبطون في المنطقة من حولهم، ولا سيما الشباب، أو أولئك الذين يسعون وراء تحقيق غايات مثالية، أو العاطلين عن العمل القانطين من قدوم غد أفضل، لا يجدون إلا النزر اليسير من “الأفكار الأفضل” أو الرؤى الجذابة والمقنعة.
فكل ما يرونه هو أطلال “الربيع العربي” الذي عُلقت عليه آمال عريضة ولكنه ما لبث أن حطمها بقسوة.
فالأنظمة الدكتاتورية المتوحشة الفاسدة التي تلقت صفعة قوية من “الربيع العربي”، إما تفتت وانزلقت إلى هاوية الفوضى والاضطراب الطائفي والقبلي، كما هو الحال في سوريا وليبيا واليمن والعراق (بتدخل غربي)، أو عادت فيها مرة أخرى “الدولة العميقة” التي كانت تتسنمها الأنظمة السابقة، وربما أصبحت أشد قسوة من ذي قبل، كما هو الحال في مصر، أو أكثر سلاسة، كما هو الحال في تونس.
وبينما لاقت هذه الدعوة صدى لدى الكثير من الجهاديين الأوروبيين لأسباب أخرى، فإن العوامل الاجتماعية والاقتصادية لعبت دورًا مهمًا في تحفيز بعض الجهاديين العرب على انتهاج التطرف، وما لم تعالج هذه العوامل لواصلت تحفيز المزيد على انتهاج التطرف.
تنظيم الدولة الإسلامية: ما هي عوامل جذب الشباب الأوروبي؟
وفدت أعداد كبيرة من المقاتلين الأجانب المنضمين إلى صفوف الدولة الإسلامية من تونس، حيث أظهر استطلاع رأي مفصل في الضواحي الأكثر فقرًا بالعاصمة أن تطرف الشباب في تلك المناطق لا يعود إلى الإيدولوجية الإسلامية المتطرفة بقدر ما يعود إلى البطالة، والتهميش، والاصطدام بالحقيقة في أعقاب ثورة عقدوا عليها كل الآمال والأحلام، ولكنهم لم يجنوا من ورائها شيئًا وأصيبوا بخيبة أمل.
وقد أتيحت فرصة نادرة لإلقاء نظرة عن كثب على طبيعة الأشخاص الذين يتطوعون في صفوف تنظيم الدولة حين نشرت وسائل إعلام أوروبية في مارس/ آذار مجموعة ما يعتقد أنها ملفات “سرية” لتنظيم الدولة الإسلامية تحتوي على بيانات شخصية لمن تم تجنيدهم.
وتكشف البيانات التي سجلت ما بين عامي 2013 و2014 هوية أعضاء قادمين من 40 دولة على الأقل، وتضم أسماءهم، وعناوينهم، وأرقام هواتفهم، ومهاراتهم، وهو ما يمثل كنزًا من المعلومات لأجهزة الاستخبارات التي تحاول تعقب ومحاكمة مواطنين انضموا إلى التنظيم.
ملأ التنظيم أيضا فراغا كبيرا خلفه انهيار جميع الإيدولوجيات السياسية التي أثارت حفيظة الحالمين بالتغيير في العالم العربي على مدار عقود من الزمن. وقد اعتاد الكثيرون منهم السفر إلى الاتحاد السوفيتي لتلقي التدريب والتعليم العالي، بيد أن الشيوعية ينظر إليها حاليا على أنها فكرة لم تؤت الثمار المرجوة منها.
وتحولت الاشتراكية والقومية العربيتان اللتان أشعلتا حماسة الكثيرين في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، إلى “جمهوريات” وحشية وفاسدة حيث كان الأبناء يُعدون ليرثوا الحكم عن آبائهم.
وفي ظل هذا الفراغ، أخذ تنظيم الدولة الإسلامية على عاتقة مسئولية معاقبة الغرب وكل من لا ينضوي تحت لوائه على ما اقترفوه من أعمال في المنطقة على مدار القرن الماضي:
– تقسيم القوى الاستعمارية للأراضي منذ 100 عام خلت، راسمةً حدًا بين العراق وسوريا، ومحاه تنظيم الدولة الإسلامية حاليًا.
– نشأة دولة إسرائيل في ظل الانتداب البريطاني لفلسطين، ودعم الولايات المتحدة لها فيما بعد سياسيًا وماليًا على طول الخط.
– مساندة الغرب، ولا سيما روسيا، للأنظمة العربية الفاسدة والاستبدادية.
– غزو الغرب وتدميره للعراق متذرعًا بأوهى الحججّ، مما أسفر عن مقتل آلاف مؤلفة من العراقيين
– فضائح الاعتداء على السجناء في سجني أبو غريب وغوانتانامو.
تنبع جذور تنظيم الدولة الإسلامية من أزمة فهم للدين الإسلامي.
وقال الرئيس أوباما “تنظيم الدولة الإسلامية ليس إسلاميًا”، مرددًا عبارات تناقلتها ألسن الكثيرين من الزعماء الغربيين، قائلين “تنظيم الدولة الإسلامية لا علاقة له بالإسلام”.
بيد أن تنظيم الدولة الإسلامية له علاقة بالإسلام.
ويقول أحمد موصلي، أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية في بيروت: “يستند تنظيم الدولة الإٍسلامية إلى نصوص إسلامية ولكنهم أعادوا تفسيرها لتوافق رؤيتهم الخاصة لها. وأنا لا أقول أنهم لا يستمدون أفكارهم من الأثر الإسلامي، فهذا إنكار للحقائق، بل يفسرون الأمور تفسيرًا غير معتاد، وأحيانًا يكون تفسيرًا حرفيًا، يشبه إلى حد كبير تفسير الوهابيين”.
ويوافقه الرأي هشام الهاشمي، خبير شؤون الجماعات المتشددة.
ويقول الهاشمي إن “التطرف العنيف الذي ينتهجه تنظيم الدولة الإسلامية والجماعات الجهادية السلفية له ما يسوغه، بل ويباركه في نصوص الشريعة الإسلامية التي يرتكن إليها تنظيم الدولة الإسلامية والجماعات المتطرفة. إنها أزمة الخطاب الديني، وليست أزمة جماعة همجية. فإن تحليل الخطاب الديني ووضعه على المسار الصحيح أهم بمراحل من قمع الجماعات الإرهابية المتطرفة عسكريًا”.
ولأن النصوص القديمة قد يفسرها المتطرفون ليجدوا ذريعة للتغطية على فظائعهم، فإن هذا لا يسيء بالضرورة إلى الدين بأكمله، تمامًا كما لا تختزل المسيحية في محاكم التفتيش التي كانت تهدف إلى محاربة الهرطقة حيث كانت عقوبة الإعدام حرقًا عقوبة معتادة.
فتظل الأفكار المتطرفة قابعة في الجانب المظلم من التاريخ ويطويها النسيان حتى يحين وقتها، وها هو قد حان الوقت لخروج تنظيم الدولة الإسلامية إلى النور، مع ما حدث في أفغانستان والعراق وكل ما تلا من أحداث.
يقول موصلي: “السلفية ضربت أطنابها في العالم أجمع، من أفغانستان، مرورًا بباكستان إلى الدول العربية”.
وينحي الموصللي باللائمة على السعوديين لأنهم وأدوا الإسلام الديمقراطي الوسطي في مهده، ويقصد بهذا “الخطاب الإسلامي البديل” للسلفية، الذي يريد الرئيس أوباما أن يراه.
وأضاف الموصلي “النموذج الإسلامي المعتدل في وقتنا الحالي هو النموذج الذي تتخذه جماعة الإخوان المسلمين، التي قضت عليها دول الخليج بدعمها للسلطات في مصر”، في إشارة إلى إطاحة الجيش المصري بالرئيس المنتخب محمد مرسي، المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين، في يوليو/ تموز 2013 عقب احتجاجات واسعة ضد حكمه.
وتابع: “لقد خسرنا هذه الفرصة في مصر. كان من الممكن أن تمهّد مصر الطريق لتغيير حقيقي في المنطقة، ولكن المملكة العربية السعودية وقفت حائلًا دون حدوثه بمكرٍ وخبثٍ بالغين، وقضت على كل فرص تغيير الأنظمة العربية لتغدو أكثر ديموقراطية وتتقبل الانتقال السلمي للسلطة. فالسعوديون لا يريدون ذلك”.
وقد أثارت المرجعية الدينة الوهابية الموغلة في التشدد وانتشارها المتواصل شكوكًا حول علاقتها بالجماعات المتطرفة في الخارج. فيتهمها أعداؤها ومنتقدوها بأنها مسؤولة عن إنتاج نموذج مؤذٍ وعنيف من الوهابية، يستمد المتطرفون منه أفكارهم، بل ويتهمونها أيضًا بدعم تنظيم الدولة الإسلامية وغيره من الجماعات السلفية المتشددة.
ولكن يقول جمال خاشقجي، كاتب صحافي سعودي بارز، قضى وقتًا في أفغانستان وكان يعرف بن لادن، إن هذا ببساطة ليس صحيحًا.
وقال: “نحن نخوض حربًا مع تنظيم الدولة الإسلامية، الذي يعتبرنا وهابيين فاسدين”.
وتابع: “إن تنظيم الدولة الإسلامية هو شكل من أشكال الفكر الوهابي الذي قُمِع هنا منذ ثلاثينيات القرن الماضي، ولكنه عاد إلى الواجهة مرة أخرى بمحاصرة المسجد الحرام في مكة سنة 1979 وانتشر هنا وهناك. بيد أن المملكة العربية السعودية لم تدعمه قطّ، بل طالما رأت أنه يمثل تهديدًا للبلاد. ولذا، فصحيح أن السلفية قد تتخذ منحى متشددًا، تمامًا كما قد ينتج اليمين الأمريكي بعض المتعصبين المجانين”.
وقد لقي المئات حتفهم إثر الحصار الذي امتد طيلة أسبوعين حين استولى متشددون مسلحون على الحرم المكي.
وقد استهدفت هجمات لتنظيم الدولة الإسلامية مؤخرًا قوات الأمن السعودية والأقلية الشيعية في المملكة العربية السعودية، وقد نفذت المملكة أحكاما بالإعدام بحق المسلحين المعتقلين. وتتبنى السعودية برنامجًا فعالًا لإعادة تأهيل المتطرفين.
غير أن خاشقجي يوافق على أن المملكة ارتكبت “خطأ جسيمًا حين دعمت الإطاحة بالرئيس مرسي وما تلا ذلك من قمع للحركة، كان من شأنه أن دفع الإٍسلام السياسي دفعًا إلى أحضان المتشددين”.
ويقول خاشقجي: “لم تُرفع صور تنظيم الدولة الإسلامية ولا بن لادن ولا القاعدة في ميدان التحرير. وكانت الفرصة سانحة للتحول الديموقراطي في منطقة الشرق الأوسط، ولكننا ارتكبنا حماقة تاريخية، كلنا ندفع ثمنها الآن”.
ولكن بسبب ما تنتهجه المملكة العربية السعودية من اتجاه محافظ بصورة مفرطة، وكراهيتها للديمقراطية، باتت هدفًا رئيسيًا للدعوات من أجل تنفيذ عملية إصلاح، ربما تكون بعيدة المنال، داخل الدين الإٍسلامي كجزء لا يتجزأ من المعركة ضد تنظيم الدولة الإسلامية وغيرها من الجماعات المتطرفة.
يقول أحد كبار السياسين السُّنة في العراق: “يجب أن نقبل حقيقة وجود أزمة داخل الدين الإسلامي”.
وأضاف أن “تنظيم الدولة الإسلامية لم يأت من فراغ. فانظر إلى الجذور والناس والغايات. فإن لم تعالج الجذور سيستفحل الوضع ليصبح أكثر خطورة. ويجب أن يستأصل العالم بأسره تنظيم الدولة الإسلامية، ولكن ينبغي التوصل إلى صفقة جديدة، تتمثل في الإصلاح في المملكة العربية السعودية وأفغانستان والأزهر”.
وتابع: “لن تستطيع أن تقتل جميع المسلمين، أنت تحتاج إلى إصلاح إسلامي. بيد أن الأموال السعودية والقطرية تكتم الأصوات لتجعلنا نقف مكتوفي الأيدي لا نقدر على شيء. إنها لعنة حلّت بالعالم العربي، الكثير من النفط والكثير من المال”.
التنافس الإقليمي
غدا تنظيم الدولة الإسلامية في قلب الأفكار والرؤى المتناحرة في المنطقة، أي النزاع الجيوسياسي الاستراتيجي في المنطقة، أو سباق الأمم، في أعقاب تفكك سوريا والعراق.
حين دمر التحالف بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية العراق عام 2003، حطم الجدار الذي كان يقف حائلًا أمام إيران، القوة الشيعية العظمى في المنطقة، التي يراها السعوديون وجلّ شركائهم من دول الخليج السنة أنها باتت تمثل تهديدًا لهم منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1979.
ظلت إيران لسنوات طويلة تدعم الفصائل الشيعية العراقية المناوئة لصدام حسين في المنفى. وبتمكين الغالبية الشيعية في العراق بعد 2003، من خلال هذه الجماعات، بات لإيران تأثير لا يبارى على السياسية العراقية.
وقد أفضى ظهور التهديد المتمثل في تنظيم الدولة الإسلامية إلى زيادة التغلغل الإيراني من خلال تسليح قوات الحشد الشعبي التي هبّت للدفاع عن بغداد والجنوب وتدريبها وتوجيهها.
يقول هادي العامري، زعيم منظمة بدر المدعومة من إيران، إحدى أكبر الجماعات المقاتلة “لولا إيران، لباءت التجربة الديموقراطية في العراق بالفشل”.
وتابع: “أوباما كان يغط نائما، ولم يفق إلا عندما وصل تنظيم الدولة الإسلامية إلى مشارف أربيل، إنه لم يفعل شيئًا. فلولا الدعم الإيراني، لكانت منطقة الخليج برمتها، وليس العراق فحسب، تخضع لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية”.
وترى المملكة العربية السعودية وحلفاؤها أن التغلغل الإيراني في العراق ينذر بإقامة “قوس شيعي”، يربط إيران بالعراق وسوريا التي تحكمها الأقلية العلوية، ولبنان الخاضعة لهيمنة حزب الله.
ومنذ اندلاع الحرب في سوريا، دعم السعوديون وشركاؤهم في دول الخليج، وتركيا، المعارضة السنية، على أمل أن تفضي الإطاحة بنظام الأسد إلى إقامة حكم الأغلبية السنية.
وحينئذٍ، سيوجه المحور السني الممتد من الشمال إلى الجنوب من تركيا مرورًا بسوريا إلى الأردن والمملكة العربية السعودية ضربة قاسمة لنفوذ إيران، حسبما يرون.
وهذا ما فعله تنظيم الدولة الإسلامية، إلى حد كبير، في 2014، حين رجع إلى العراق وسيطر على الموصل ومعظم المناطق السنية بالدولة، وأقام كيانًا سنيًا يضم الحد الفاصل بين العراق وسوريا، الذي أصبح فجأة غير مناسب، مع سوريا، ليكون بمثابة حاجز يفصل الأجزاء الشيعية من العراق عن سوريا.
فلو كان تنظيم الدولة الإسلامية قد توقف عند هذا الحدّ ورسّخ أقدامه، من كان سيزحزحه من مكانه؟ ولو لم يشنّ هجومًا على الأكراد، لما تدخل الأمريكيون. ولو لم يسقط طائرة الركاب الروسية ولا نفذ هجمات باريس، لما كثفت كل من روسيا وفرنسا عملياتهما العسكرية ضد تنظيم الدولة الإسلامية.
يقول موصلي: “لو لم يصبحوا إرهابيين عالميين، وظلوا يقومون بأعمال إرهابية داخلية، لكانوا ساعدوا في تنفيذ الأجندة الأصلية التي تهدف إلى تقسيم المشرق العربي”.
ربما لن نعرف قطّ لمَ أقدموا على هذه الأفعال. فلعلّ النموذج العدائي من السلفية عليه أن يواصل التحرك بلا انقطاع، من أجل الاستمرار والتوسع.
فهل من الممكن إن تراجعوا عن موقفهم واستقروا في “دولتهم” (أي ما يسموه الدولة الإسلامية)، وكفوا عن استعداء الناس من حولهم، أن يلاقوا بعدئذ قبولًا لدى الناس، كما حدث مع إيران، بعد ما شهدته من ثورة عارمة وعُزلة دولية؟
هذا الأمر مستبعد الحدوث، للدوافع نفسها، التي تتمثل في أنهم هم الذين اتخذوا خطوات تصعيدية في المقام الأول، وحتى لو أراد تنظيم الدولة الإسلامية أن يتراجع، فإن الأمريكيين قد عقدوا العزم على سلك هذا المسار، وقد أثبتوا أنهم عازمون على ملاحقة تنظيم الدولة الإسلامية بلا هوادة ردًا على الهجمات الإرهابية.
ولكن ما هو البديل إذن؟ في ظل وجود مشكلة في تجميع قوات أرضية ذات كفاءة عالية، هل من الممكن أن تسيطر قوات الحشد التي تدعمها إيران على الموصل وقوات النظام السوري التي تدعمها إيران وروسيا أو غيرها من الجماعات غير السنية مثل الأكراد على الرقّة، بعلم الأمريكيين وبمشاركتهم؟ وهل بلغت عداوة الأمريكيين لتنظيم الدولة الإسلامية حدًا يجعلهم يؤثرون أن يشاهدوا الإيرانيين وهم يبسطون نفذوهم في المنطق؟ وهل سيوافق السعوديون والأتراك على ذلك؟
لا توجد إجابات شافية على أي من التحديات التي طرحها تنظيم الدولة الإسلامية في كل جوانب الأزمة التي جمعها تنظيم الدولة في علاقة متشابكة.
ولهذا ما برح تنظيم الدولة باقيًا.