قبل عامٍ من اليوم، بعد أن ألقى سعد الحريري خطابه الشهير من الرّياض، راسلني الكاتب الزميل أحمد حسن ليقول إنّه لا يوافق على حملة «التّعاطف» والتبرير التي أحاطت بالحدث، والحبّ المفاجىء لشخص سعد الحريري، سواء صدرت عن صدقٍ أو سذاجةٍ أو نفاق. وإنّ الحريري ــــ بغض النظر عمّا إن كان مكرهاً في خطاب «الاستقالة» أم لا ــــ من المفترض أن يُحاسب بعد أن يرجع الى البلد، فلا شيء يبرّر، حتّى ولو تلقّيت «أوامر» أو تعرّضت الى الضّغط، أن تُطلق أمراً بمواجهة داخليّة تعلم جيّداً أنها لو وصلت الى منتهاها، وقد كان هذا احتمالاً جدّيّاً يومها، قد تودي ببلدك الى الخراب والحرب.
في أساس مفهوم «المسؤولية السياسية» أنّ القائد المنتخب هو من يفترض بك أن تأتمنه على مصير البلد ومستقبله، وهو من يحفظ مصالحه ويفاوض عنه في الغرف المغلقة. ومن المفترض به ايضاً أن تكون سلامة المجتمع السياسي أولويته الكبرى، ومعنى المسؤولية هو أن يجعلها خطّاً أحمر لا يفرّط به في أيّ ظرف ــــ لا أن يستسلم ويرمينا الى الجحيم بعد أوّل صفعة.
من السّهل أن ننظر الى الأمر برمّته كمسرحيّةٍ، أو حدثاً غريباً تذكره الصّحف الغربيّة ضمن فقرة «طرائف ابن سلمان»، والحياة السياسية في لبنان تصنع لديك مناعة ضد المفاجأة والفضيحة والاستهجان؛ ولكن الصّعب هو أن نحاول أن نأخذ المسألة بجدّيّة، وأن نحلّلها بوصفها حدثاً خطيراً كاشفاً، لا طرفة، وأن نعترف بالنتائج التي تترتّب عليه، أقلّه بيننا وبين أنفسنا (في لبنان ايضاً، اعتدنا على فكرة الوصول الى حافّة الهاوية، والتوقّف في اللحظة الأخيرة قبل الضغط على الزناد، حتى أصبحنا ننسى الأمر بعد أن ينقضي ونعتبره «قطوعاً وقد مرّ»).
فلنتخيّل لبرهةٍ، كتمرينٍ ذهنيّ، أننا في بلد ديمقراطي «طبيعي»، تكون للأحداث فيه نتائج ويقيّم السياسيّون فيه بحسب مقاييس النزاهة والمصداقية والأداء (أو تخيّل أنّك تكتب طلب منحة لمنظّمة اوروبية، وتريد أن تبدو كالعربي الديمقراطي «المثالي»). لو حلّلنا ما جرى منذ عامٍ بهذه المقاييس فإنّنا سنصطدم، منطقياً، بأكثر من إشكالٍ، وسيكون من الصّعب أن نوفّق بينها وبين واقع أن سعد الحريري، اليوم، هو رجل التوافق لقيادة الحكومة مجدداً. أوّلاً: امّا أنّك قد خُطفت، وأجبرت على قول ما قلته، أو لم تخطف. ولو أنّك خطفت، فليس من الطبيعي أن تخرج ثمّ تتعامل مع خاطفيك كأنّ الأمر لم يحدث، وتعلن ولاءك المستمرّ لنظام الرّياض، فهنا مشكلة حقيقية في المصداقيّة. ماذا نصدّق؟ هل تم احتجازك واهانتك أم كنت حرّاً أم تريدنا أن ننسى الموضوع ونتصرّف كأنّه لم يحصل؟ ومن، بأيّ معيار، يمكن أن يثق بسياسي يخضع لمن اعتدى عليه وأهانه؟ (وأن يطلق ابن سلمان «مزحة» عن الأمر، وفي حضور الحريري، فهو درسٌ جديد عن الفارق بين الجرأة والوقاحة، وقد وجد الحريري النكتة مضحكة). ثانياً، إن كان رئيس وزراء البلد يتمّ «استدعاؤه» الى الرياض، ويتفاوض هناك دورياً على مصير البلد مع محمّد بن سلمان ومعاونيه، فهذا ايضاً لا يدفع الى الإطمئنان البتّة. انت يمكنك، في الحدّ الأقصى، أن تضمن سعد الحريري، ولكن كيف تضمن ابن سلمان وما يدور في رأسه؟ وهل من الحكمة أن تربط مصيرك، بهذا الشكل التبعيّ، بنظامٍ لا يمكن التنبّؤ بأفعاله، وتعرف أنه يضعك في دائرة الاستهداف؟ أخيراً، الموضوع برمّته يطرح اسئلة جدّيّة حول ولاء رئيس الوزراء المكلّف، وهل هو مواطنٌ سعوديّ أم لبناني أوّلاً (فإبن سلمان، بوضوح، يرى الخيار الأوّل ويتعامل على هذا الأساس).
ولأنّ الإعلام من وظائفه الأساسيّة «تطبيع» الناس مع وقائع الحكّام وأهوائهم ومصالحهم، وجعل غير المقبول مقبولاً ومنطقيّاً، فقد شهدنا ترسانة كاملة من التبريرات حول ما حصل في الرياض: أن الحريري يحمل الجنسية السعودية، وأنّ لديه مصالح وشركات تربطه بها، وأن عائلته هناك، وأنّ في معسكره انشقاقات وتآمراً، الخ… وهذه كلّها حججٌ مقبولةٌ ومفهومةٌ بالمعنى الانساني العامّ، وهي تفسّر ما جرى، ولكن لا علاقة بينها وبين أن يكون الرّجل صالحاً لقيادة الحكومة.
عن الإعلام و«التأثير»
كما في قضيّة خاشقجي، كان الإعلام ــــ بكلامه وصمته ــــ مركزيّاً في قضيّة الحريري؛ وقد وجدنا أنفسنا في موقفٍ سورياليّ حيث بعض الإعلام يحشد لتحرير رئيس الوزراء «المخطوف»، وبعضه الآخر يتصرّف كأنّ كلّ شيءٍ طبيعيّ ويقود حملة السّبهان، والبعض الآخر من الإعلاميين يهرع لتغطية واقع الخطف، وتدبير تمثيليّات لإثبات أنّ الرجل حرّ وتبديد الشكوك (ايضاً، بنفس الأسلوب ومستوى الأداء الذي شهدناه حين حاول الفريق السعودي «التغطية» على اغتيال خاشقجي). الأمر الثاني المشترك بين الحدثين هو اقتران الفضائحية القصوى مع العقم السياسي. أن يصبح الموضوع مثار التغطية والتعليق والتسلية لأسابيع، ولكن من دون أيّ نتيجة سياسية حقيقيّة. موضوع خاشقجي قد دُفن تقريباً، الا في بعض الإعلام العربي، و«بلومبرغ» تقول إنّ الشركات الأميركية و«وول ستريت» رجعت الى التعامل الاعتيادي مع الرياض؛ وشخصية اقتصادية اميركية تصرّح بأنّ ردّة الفعل كانت مبالغة ولم تفد بشيء، وأنه من الأفضل أن نترك الموضوع خلفنا.
في قضيّة الحريري ايضاً، من الممكن أن تستفيض في الكلام عن حادثة الخطف، وأن تتابع التفاصيل وتتندّر، ولكن هذا لا يعني شيئاً طالما أنّ الحريري هو رئيس الوزراء القادم، وأنّ لا أحد يجرؤ على القول بأنّه لا يصلح لهذا المركز (تحت صيغة أن «لا بديل»)، وأن يواجه المعنى الحقيقي لهذا الاحتمال. ستكون القصّة، كسلسلة مناكفات 8 و14 آذار قبل سنوات، عملية تسجيل نقاطٍ ومسرحٍ إعلاميّ، لا تخرج منه برأيٍ جديدٍ أو بخطابٍ حاسمٍ يستجيب لهذا الواقع. من جهتي، من أجل الشفافية، أنا لم انتظر واقعة الرياض لتكوين رأيٍ في هذا الفريق السياسي، وليس بعد ما فعلوه خلال حرب 2006 من ذنب، وأنا من يومها لا أثق بكلّ من يدعو الى التطبيع مع هذا الفريق ومسامحته، وإن ضمنياً، على ما فعل ــــ حين وقعت فظائع الحرب الأهلية في لبنان، كنّا في حالة حربٍ وهي أحداثٌ جرت قبل أن أولد أو وأنا طفلٌ، ولكن الخيانة عام 2006 قد شهدتها أمامي وأنا راشد، فلا سبب عندي لكي أتنازل أو أسامح أو لا آخذ الموضوع على نحوٍ شخصي ( على الهامش: الطريقة التي تدير بها هذه العداوات في حياتك، وكيف تختارها وهل تتنازل وأي طريقٍ تسلك، هي من أهمّ الركائز في تكوين شخصيتك).
ولكن، عودةً الى دور الإعلام، فالمعادلة القديمة التي لا فرار من تكرارها في كلّ موقعٍ مشابه هو أنّ الإعلام، كأي مؤسسة اجتماعية، هو تمثيلٌ لمجموعة مصالح، وهو مهمٌّ لأنّ الدولة والمؤسسات والمصالح تنطق عبره، وبخاصّة في عصرنا، وهو «المسرح» الذي تجريه عليه السياسة. وهو في الوقت ذاته «ليس مهمّاً» ولا يجب أن نخلط بينه وبين الفاعلين السياسيين، لأنّه لا يملك قدرةً مستقلّة على الفعل، خارج وظيفته كممثّلٍ لمصالح وتيارات وأموال (اذكر نصّاً عن مجتمع البوّابين في نيويورك، الذين يقفون خارج مباني الأثرياء ويفتحون لهم الأبواب ويحملون أغراضهم؛ الفكرة أنّ هناك وظيفة «انثروبولوجية» لهذا البوّاب، وهي أن يكون «حاجزاً» رمزياً بين الثري وبين الشارع، يده التي تلمس الباب والسيارة، وهي التي تنزل الى الواقع وتتّسخ بدلاً عن السيّد، قد يكون من المفيد مقاربة علاقة الإعلام بالسياسة من هذا المنظار).
ولكن المشكلة ليست هنا، فهذا واقع قديم؛ المشكلة هي حين يسبغ الإعلاميون وغيرهم صفات «مثالية» على هذا القطاع، تخرجه من سياقه الحقيقي وتقدّمه كـ«رسالة» أو ككيانٍ متعالٍ فوق التاريخ والمصالح. بمعنى آخر، الخطير حقّاً هو ليس الإعلام الحزبي والبروباغاندا المباشرة، التي تقدّم نفسها وانحيازاتها بصدقٍ الى الجمهور، الخطير هو الإعلام الذي يصوّر نفسه «موضوعياً»، ويحاول أن يخفي أصله خلف غلالة المهنيّة ويفرض خطابه كخطاب هيمنة، أو يزعم الكلام باسم «الشعوب» أو القيم. هنا التضليل الحقيقي وليس في «الأخبار الزائفة» فحسب.
أمّا في بلادنا، فإنّ الكلام عن «رسالة» الإعلام يصبح امتحاناً للأعصاب، خاصّة وأنّ من يحاضر باستمرارٍ في الأصول الإعلامية هم تحديداً الفئة التي عملت طوال حياتها في الإعلام الخليجي، وفي خدمة الحكومات والمؤسّسة، وتريد اليوم أن تخبرنا عن أصول «السلطة الرابعة» وتحتفي بدور الصحافة في المجتمع الديمقراطي. انت قضيت حياتك المهنيّة في البروباغاندا، ولم تعرف يوماً محيطاً مهنيّاً من أي نوع، ولم تنل قرشاً حلالاً، فلماذا تتكلّم كأنك «الليبرالي الأخير»؟ بل إنّ البعض يصرّ على خلط الجهل بالاستشراق، فيدعونا الى التعلّم من «واشنطن بوست»، والاستلهام من نموذجها في السياق العربي (ما هو، تحديداً، النموذج الذي يفترض بالـ«بوست» أن تمثّله لنا؟ أن يشتري صحيفتك ملياردير لا يهتمّ للحسابات التجارية، حتى يستخدمها في معاركه السياسية ويعطي سلطته المالية تمثيلاً في الإعلام؟ فهذه هي قصّة الـ«بوست» مع جيف بيزوس).
من الشائع أن يخلط بعض الناس بين براعة الانتاج والإخراج من جهة (أي الامكانيات والقدرات المالية والتحريرية)، وبين المهنية من جهةٍ أخرى؛ فيرون في كلّ قويّ مبهر «سلطة»، وفي كلّ انتاجٍ كبير حقيقة و«موضوعية». بل إنّ البعض ما زال يصدّق اسطورة الصحافة الأميركية عن نفسها، حتّى بعد أن ذوت في بلادها، وأشبعها المفكّرون نقداً وهجر الجمهور الإعلام السائد ولم يعد يثق به. ويصرّون على أنّ الصحافة هناك هي من أسقط نيكسون وأثار «ووترغايت» (حتّى بعد أن كشف التاريخ أن «المخبر السري» الذي سرّب الخبر يومها كان نائب رئيس الـ«اف بي اي»؛ أي أنّ «ووترغايت» كانت قراراً من أعلى الدوائر في البيروقراطية وداخل الدولة، وليست نتيجة «سبقٍ صحفيّ»). المسألة هي أنّ «ووترغايت»، ومثال الصحافي المستقلّ الماهر الذي يكشف الأسرار ويؤثّر في الأحداث، مثّلت سرديّة مناسبة للصحافة الأميركية في عهد تملّكها من قبل الشركات الكبرى، وحجّةً تعطيها الشرعيّة ــــ بعد أن كان الجوّ الإعلامي الأميركي أكثر بساطةً وصدقاً في الماضي، حين كان معروفاً لأي عائلة أو ثريّ تتبع كل وسيلة إعلامية.
نهاية الطريق
في هذه الأثناء، وعلى أرض الواقع، المشكلة الأساسية لدى الكثير من اللبنانيين هي أنّ مولّدات الكهرباء الخاصة، التي يعتمدون عليها في غياب امداد الدولة، قرّرت أن تقطع عنهم الكهرباء في «إضراب» خلفه مطالب. بمعنى ما، أصبحت الحياة السياسية اللبنانية سلسلة من نوائب مماثلة تواجه اللبنانيين دوريّاً، فيغطّيها الإعلام بكثافة ويتكلّم الناس عليها أسابيع، ثم ينتقلون الى «الفضيحة» التالية من غير أن يربطوا هذه الأمور ببعضها البعض. وفي موضوع المولّدات الخاصّة، المعادلة ايضاً واضحة: أذكر أنّه منذ سنواتٍ في مدينة صيدا، حين قررت البلدية أن يُخصّص لكلّ مولّدٍ نطاقٌ خاصّ به في المدينة، فلا يحصل تنافس وتداخل بين أصحاب المولّدات. كان نصيب أحد الأحياء رجل أعمالٍ غريب الطباع، كلّ أهل الحيّ يهابونه ويتجنّبون إغضابه في أيّ شيء، أو التأخّر في الدفع أو الشكوى من قطعه الكهرباء عنهم لتوفير الوقود. يبدو أنّ الرّجل لديه هوسٌ بالسيطرة أتاح له عمله الجديد أن يطلقه من عقاله ويمارسه على الجمهور. باختصار، كان صاحب المولّد يتعامل مع أيّ إزعاجٍ أو اعتراضٍ من قبل الزبائن على أنّه«مخالفة»، ويصدر فوراً عقوبات وأحكاماً قطعية لا تقبل الاستئناف، مضمونها أن يقطع عنك الكهرباء يوماً أو يومين أو اسبوعاً، بحسب درجة «مخالفتك». البلديّة يمكن أن تلزمه بتسعيرة معيّنة، ولكنّها لا يمكن أن تجبره على أن يبيع لك الكهرباء إن لم يرد ذلك، ولا على أن يكون لطيفاً معك ولا يميّز ضدّك. ولا يوجد بديل، فكان النّاس يتقبّلون العقوبات وينتظرون مرورها حتى ترجع الكهرباء (بقدر ما كان صاحب المولّد متسلّطاً بقدر ما كان دقيقاً)، ويتجنّبون إثارة غضبه من جديد. مسار الأمور في لبنان (من فشل الدولة وانسحابها، الى تسلّط رأس المال الحاكم، وكلّ ما جرى في العقود الأخيرة) لا يدلّ الّا على أنّ ما عايشه أهل ذلك الحيّ هو صورة مبكرة عن مستقبلنا جميعاً.
في هذه الأثناء، سعد الحريري هو رئيس الوزراء بعد سنةٍ من حادثة الرياض، واحدى الصحافيات ممن كان لهم دورٌ في تغطية احتطافه دافعت عن نفسها ضدّ كلام النقّاد عبر التأكيد أنّها هي، لا الرياض، من دفع كلفة الطائرة الخاصة التي أقلّتها الى هناك (أريد أن أعرف بالضبط ما هي الدرجة الوظيفيّة، أو نوع العمل، الذي يسمح للصحفي بأن يكتري طائرات خاصّة، فالموضوع يهمّني)؛ والشعب اللبناني يناشد أصحاب المولّدات حتّى لا يقطعوا عنه الكهرباء. لا داعي لأن نكرّر هنا بأنّه، حين لا يكون الإصلاح ممكناً ولا التغيير متاحاً، وتؤجّل الاسئلة الصعبة، فالبديل في آخر هذا الطريق ليس استمرار الحال الى ما لا نهاية، بل السقوط والانهيار.