المقالات

السياسة الأميركيّة نحو لبنان في عصر ترامب: بومبيو في الربوع

ليس هناك من سياسة أميركيّة نحو لبنان، ولم تكن هناك سياسة أميركيّة خاصّة بلبنان إلا في مراحل معيّنة من التاريخ العربي المعاصر. لكن ليس هذا هو الانطباع الذي يتركه سياسيّو لبنان وإعلامه في الأذهان. مراسلة الـ«أو.تي.في.» في قصر بعبدا، يوم استقبال بومبيو، قالت مُبتهجة إن لبنان بات «ركيزة» في السياسة الأميركيّة نحو الشرق الأوسط. آخر مرّة كان فيها لبنان «ركيزة» في سياسة الاستعمار الغربي كان في الخمسينيّات عندما نقَّل كميل شمعون هواه من الاستعمار البريطاني إلى الاستعمار الأميركي. كان لبنان مفيداً للاستعمار الغربي في مرحلة الخمسينيات كمقرّ سياسي واستخباري ومالي للتآمر ضد الشيوعيّة وضد القوميّة العربيّة. فقد لبنان أهميّته مذّاك، خصوصاً أن الانقسام الطائفي والسياسي في لبنان، وغياب حكم السلالة الحاكمة الذي تفضّله أميركا على غيره في بلادنا، يمنعان أميركا من تمرير مشاريعها وفرض أولويّاتها ضد مزاج أهل البلاد. من يُرد أن يفرض سياسة على لبنان يواجه صراعاً. 

الثابت الثاني أنه ليس هناك من حلفاء لأميركا في لبنان. آخر مَن ظنّ أنه يستطيع أن يفرض أجندة قريته الصغيرة على القوّة العظمى كان وليد جنبلاط في غمرة «ثورة التبّولة»، عندما كان يرسل مطالبه بإسقاط أنظمة حوله إلى إدارة بوش. جنبلاط نفسه بات يسخر ـــ أحياناً ـــ من أوهامه في حينه، وإن كانت أوهامه لا تخبو عندما يستقبل مبتهجاً، وبثياب العيد، المبعوثين الأميركيّين. يجب في مرحلة كتابة تاريخ لبنان ـــ عندما يُتوافَق عليه ـــ أن يؤخذ في عين الاعتبار ما تقوله الوثائق التاريخيّة ومحفوظات الديبلوماسيّة الغربيّة عن لبنان وسياسيّيه. كيف يمكن تجاهل الوثائق البريطانيّة والمحليّة التي تشرح طبيعة العلاقة بين زعماء محليّين والاستعمار الغربي؟ يستطيع لبنان أن ينتج عدداً من الوثائقيّات عن كميل شمعون، وأن يصطنع له دوراً في خدمة القضيّة الفلسطينيّة، وأن يصفه بـ«النمر»، لكن الموضوع حُسمَ بشأنه في الوثائق البريطانيّة السريّة التي عثرَ عليها ونشرَها المؤرّخ الاسرائيلي، مائير زامير، والتي تشيرُ إلى كميل شمعون ومحسن البرازي كشخصيْن مختلفيْن عن باقي الزعماء اللبنانيّين والسوريّين الذين كانوا يمدّون الاستخبارات البريطانيّة بالمعلومات. الوثائق تقول إن شمعون والبرازي «كانا متورّطيْن مباشرة في عمليّات استخباراتيّة» بريطانيّة (راجع، مئير زامير، «الحرب الانغلو ـــ فرنسيّة في الشرق الأوسط»، ص. ٨٠). ماذا تعني السيادة عندما يستدعي ولي العهد السعودي سعد الحريري ـــ زعيم فريق السيادة في لبنان ـــ ويأمر بربطه بكرسي وصفعه وإهانته وشتمه قبل أن يأمره بقراءة بيان استقالة أُعدَّ له؟ وفريق السيادة هذا يعترض على حق لبنان في مقاومة احتلال إسرائيل وعدوانها، لأن أجندة المقاومين هي… أجنبيّة. وسعد الحريري السيادي هو الذي تريد أميركا الاعتماد عليه لفرض السيادة. لكن لبنان ليس استثنائيّاً: إن موت عبد الناصر وحرب ١٩٧٣ وبدء التسوية الاستسلاميّة دشّنَت لمرحلة استعمار أميركي مباشر، وزاد حدّة ومباشرةً بعد حرب الخليج في عام ١٩٩١. حتى تعيينات حكّام المصرف المركزي ووزراء المال وقادة الجيوش ـــ حتى في دولة «ديموقراطيّة» مثل تونس ـــ لا تصدر قبل التشاور مع واشنطن. يسهل فهم السياسة في العالم العربي إذا بدأنا بفرضيّة الاستعمار الغربي المباشر الذي يمنع اتخاذ قرارات سياديّة. مشروع المقاومة هو في تضاد مع مشروع الاستعمار، ولهذا تريد أميركا أن تقوّضه.
الزائر الأميركي إلى لبنان لم يكن ديبلوماسيّاً عاديّاً هذه المرّة. كان الديبلوماسيّون الأميركيّون ينتمون إلى فئة تلقّت تعليماً ليبراليّاً وتشاركت في رؤية إمبرياليّة لكن كوزموبوليتيّة للعالم, وتدرّبت على فرض الهيمنة الأميركيّة لكن بلغة مُخادعة تحسن النطق بمفردات عصر التنوير. مايك بومبيو ليس من هذا الصنف. تنافسَ قادة ما كان يُعرَف بـ١٤ آذار، التي تحاول أميركا إحياءها على أن يُعقد لواء زعامتها لميشال معوّض، على الطلب من اللبنانيّين تنفيذ مطالب بومبيو المتواضعة (ميشال معوّض هذا أجاب عن سؤال للصحافيّين عن سبب خصّ بومبيو له بعشاء منزلي، فقال إن علاقة قديمة تربط عائلته بأميركا، «حكومة وشعباً»، وأضاف أن صداقة تربط هذه العائلة ومايك بومبيو منذ أن كان بومبيو «نائباً في مجلس النوّاب عن ولاية تكساس»). (طبعاً، لم يكن بومبيو نائباً عن دائرة في تكساس، بل في ولاية كنساس).

مشروع المقاومة هو في تضاد مع مشروع الاستعمار ولهذا تريد أميركا أن تقوّضه

بومبيو لم يأتِ من عالم السياسة الخارجيّة ولا من عالم الديبلوماسيّة. هو ينتمي إلى فريق اليمين المسيحي (المُتحالف في حالته مع الرجعيّة الإيفانجيليّة ـــ أو التبشيريّة، على ما يصرّ جوزيف مسعد ـــ والرجل، الذي هرعَ جنبلاط للقائه مصطحباً تيمور وهدايا بعدما كانت موانع الكرامة المختاريّة قد منعته من لقاء وزير الخارجيّة الإيراني، له سجلّ حافل في إهانة الإسلام والمسلمين ـــ إهانة المسلمين ـــ كل المسلمين ـــ وليس المتطرّفون منهم. وارتبط بومبيو بمنظمّة صهيونيّة عنصريّة معادية للإسلام، اسمها «تحرّكي الآن، يا أميركا»، وتقودها اللبنانيّة الأصل بريجيت غبرييل (وهذا اسم مستعار لناشطة ضد العرب والمسلمين في أميركا). وفي عام 2013، صدحَ بومبيو ضد المسلمين في أميركا على إثر تفجير في بوسطن، واتهم المسلمين بـ«التواطؤ» مع الإرهاب، وأدان ما وصفه بـ«صمت» قادة المسلمين عن الإرهاب. بومبيو ينتمي إلى جماعة اليمين المسيحي المتطرّف التي تلوم الإسلام كدين على أفعال عناصر مسلمين. والرجل من فريق أقصى اليمين الذي يؤمن بأن الإسلام ليس ديناً مثل باقي الأديان، بل هو أيديولوجيا خطيرة يجب محاربتها. وهو من الذين يرفضون أي إشارة تعليميّة عن الإسلام في المناهج الدراسيّة الأميركيّة، كما أنه من المحذّرين من خطر إسلامي يهدف إلى تطبيق الشريعة في أميركا (وهو على علاقة بفرانك غافني، أعتى كارهي الإسلام والعرب في أميركا، وصديق اللبناني الصهيوني، فؤاد عجمي). 
لكن ناشطي التطرّف والتزمّت الإسلامي في لبنان، الذين عاثوا في شوارع الأشرفيّة تدميراً وحرقاً يوم نشر رسوم كارتونيّة في الدنمرك، صمتوا عن زيارة بومبيو. ودار الفتوى والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى لم يلاحظا تراث بومبيو في الكراهية. وحزب الله لم يشارك في التظاهرة التي دعا إليها الحزب الشيوعي اللبناني والتنظيم الشعبي الناصري مقابل السفارة الأميركيّة في بيروت. لماذا شكّلت رسوم كارتونيّة أو قصّة سلمان رشدي قضيّة شغلت المسلمين ـــ سنّةً وشيعةً ـــ ولم يشغلهم أن كارهاً متمرّساً ضد الإسلام والمسلمين يزور بلادهم ويعظهم في شؤون إدارة حياتهم وتقرير مصيرهم. وبومبيو كان قد ألقى واحدة من أشنع خطب الاستعمار في عصر ما بعد الاستعمار في الجامعة الأميركيّة في القاهرةـــ وأمام جمهور مُنتقى بعناية من السفارة الأميركيّة في القاهرة (كما أن خطبة أوباما في جامعة القاهرة كانت أمام حشد مُنتقى بعناية من قبل السفارة الأميركيّة). 
قد تكون الصحافة المحليّة في لبنانـــ بما فيها هذه الجريدة ـــ قد أعطت هذه الزيارة اهتماماً لا تستحقّه. الزيارة تستحق الاحتجاج والاعتراض والاستفظاع، لكنها لا تستحقّ التغطية المُكثّفة. التغطية تسهم في أغراض الزيارة، في بعث التهويل والتخويف والدعاية. وقد صاحب الزيارة القصيرة حملة إعلاميّة محمومة أوحت بأن أميركا ستقلب لبنان رأساً على عقب إذا لم تُنفَّذ شروطها في غضون ساعات. والتهديد بتخريب لبنان عندما يأتي من أميركا لا تُلام أميركا عليه من قبل فريق المحور السعودي، بل يُلام خصوم أميركا وأعداؤها، لأنهم تجاسروا على رفض المشيئة الأميركيّة التي يجب أن لا تُردّ. وبثّت «أم.تي.في.» حلقة حواريّة طريفة بين منى صليبا وفارس خشّان، وكان فحواها أن على لبنان كي يتقدّم إلى مصاف السويد أن يرضخ للشروط الأميركيّة السياسيّة، وأن يرضخ لشروط الغرب الاقتصاديّة من خلال حزمة سيدر كي يزدهر وينمو. والحلّ بسيط: يكمن في شنّ حرب ضد فريق لبناني كي نمنع عن لبنان حقّ الدفاع ضد العدوان والاحتلال الإسرائيلي. وهذا الفريق يرى في أن سبب البلاء والتلوّث في الهواء والأطعمة يكمن في سياسات فريق لبناني يُعادي الغرب لأنه «لا يشبهنا»، على ما يقول فارس خشّان أو ديميانوس قطّار. ولا يعطي هذا الفريق مثالاً واحداً من الدول العربيّة: هذه مصر، هي رضخت بالكامل لكل شروط الغرب منذ عام 1975 ولم تحصل على ثمار هذا الرضوخ. أين هو الدليل على أن الرضوخ والاستسلام يعمّمان النفع والرفاه؟ ألم تكن هذه فرضيّة أوسلو في الضفة والقطاع؟
لم يجلب بومبيو معه جديداً إلى لبنان، لأن ليس في حوزة أميركا من جديد كي تقدّمه. ليس هناك في السرّ ما هو مُخيف. لن تعود أميركا إلى سطوة جبروتها وإرهابه بعد 11 أيلول عندما جال كولن باول على العواصم العربيّة (بعدما استدعى سفراء الدول العربيّة في واشنطن وقدّم إليهم قائمة بالمطالب، ومن دون الاستماع إلى أسئلة. يومها، دوّن السفراء أوامر ومطالب باول، وغادروا مسرعين كي يبعثوا إلى حكوماتهم بأوامر واشنطن على عجل، قبل أن يخلد الطاغية المحلّي إلى النوم) كانت أميركا يومها على أهبة تغيير نظاميْن، واحد عربي وآخر إسلامي. لكن بماذا تهوّل أميركا اليوم؟ في أفغانستان، تستجدي واشنطن الطالبان ـــ نفس الطالبان الذين غزت أفغانستان من أجل إقصائهم عن الحكم ـــ من أجل أن يعودوا إلى السلطة وهي ترضخ لشروطهم في إهمال الحكومة الدمية التي نصّبتها أميركا في كابل. والحكومة الدمية عاتبة على واشنطن لأنها تتفاوض مع طالبان من دون حضورها الشكلي. وأميركا تعلم أن طالبان ستستولي على كل أفغانستان بعد مدة وجيزة من مغادرة جنود الاحتلال الأميركي للبلاد. وفي المفاوضات التي يجريها زلماي خليل زاد (وهو مثل أشرف غاني متخرّج في الجامعة الأميركيّة في بيروت، والاثنان درسا على يد حنا بطاطو، وكان غاني من تلاميذه المفضّلين) تلحّ أميركا على طالبان بأن لا تجعل من أفغانستان ملاذاً للإرهابيّين كما في الماضي. إذا كانت أميركا لم تُخف لبنان والمقاومات المحليّة في عام 2003 و2004 فلماذا تخيفها الآن؟ 
وخيارات أميركا محدودة جداً في لبنان، خلافاً لحروبها في سوريا وضد النظام الإيراني. ففي لبنان، تملك أميركا حصّة تقارب خمسين في المئة من الشعب، وتملك أكثر من ذلك بكثير في حصة أهل السياسة والمصارف والقوى الأمنيّة والعسكريّة. أي إن خيار التفجير والفتنة غير متوافر، لأن الحكومة الأميركيّة تخشى على السنيورة وأمثاله في حالات الحرب الأهليّة (عندما تقول أميركا إنها تحرص على الاستقرار في لبنان وهي التي أسهمت في إشعال الحرب الأهليّة واستمرارها فيه على مدى سنوات طويلة، فإنها لا تعني إلا استقرار مصالحها وأدواتها المحليّين). وفي أيّام عدوان تمّوز الطويلة، كان شرط أميركا الوحيد لإسرائيل هو عدم إضعاف السنيورة (بسبب قوميّته العربيّة التي تعني الكثير الكثير لإدارة بوش وخلفائه). خيار تخريب لبنان كان وارداً في سنوات الحرب الأهليّة، لأن أميركا كانت تحارب مع إسرائيل على أكثر من جبهة في لبنان، لكنها كانت في الوقت نفسه ترعى كانتون ميليشيات إسرائيل. لكنها اليوم تعلم أن تخريب الاقتصاد اللبناني أو تطبيق عقوبات اقتصاديّة ضد لبنان يعود بالضرر على حلفائها وحلفاء حلفائها (من أنظمة خليجيّة إلى دولة العدوّ) أكثر بكثير مما يعود على الخصوم. وأميركا تبني سفارة بحجم قاعدة عسكريّة ـــ استخباريّة (وهي كذلك بالطبع) في لبنان، وهذا استثمار في استخدام لبنان على المدى الطويل، كما أن لقوّاتها العسكريّة قواعد غير معلنة بحجج التدريب والإعداد (أسوأ أداء لجيش في مواجهة «داعش» كان الجيش العراقي الذي أنشأته أميركا ودرّبته، كما أن أداء الجيش الأفغاني الذي أنشّأته ودرّبته أميركا باد للعيان في مدى توسّع مناطق نفوذ طالبان). والاستثمار الأميركي في لبنان طويل المدى، لأنه يهدف إلى إيجاد بيئة حاضنة لعدوان إسرائيل، بالإضافة إلى استخدام لبنان لأهداف نشر الدعاية الأميركيّة في الشرق الأوسط.

زيارة بومبيو لن تكفي لشدّ العصب ولن تحيي ١٤ آذار

وهناك الاستثمار اللبناني في الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي. لقد باتت قيادة الجيش اللبناني منذ عهد ميشال سليمان أقرب إلى الحكومة الأميركيّة منها إلى حزب الله. والأموال التي تنفقها أميركا على الجيش بحجم لا سابق له في الإنفاق الأميركي على جيش خارج مصر والأردن وباكستان يدخل في نطاق خطة لتطويع القيادة وللتأثير على الثقافة العسكريّة اللبنانيّة برمّتها، وهي تهدف إلى استخدامه لأغراض أميركيّة ـــ إسرائيليّة (ضد المخيّمات الفلسطينيّة مثلاً). وتريد أميركا في عصر سحب الجيوش الأميركيّة من المواجهات المباشرة بسبب هزيمتها الشنيعة في العراق وأفغانستان، أن تستخدم جيوشاً محليّة في مهام لها. وأميركا تتدخّل مع الجيش حتى في النسب الطائفيّة فيه. وقائد الجيش اللبناني الحالي يعكس ما حلّ بقيادة الجيش في عصر الإنفاق الأميركي عليه: لم يذكر عون كلمة احتلال أو عدوان إسرائيل مرّة واحدة في زياراته إلى أميركا، لا بل هو غطّى على منع الحكومة الأميركيّة لتسليح الجيش الفعّال عندما زعم أن المال وحده ـــ لا أميركا وإسرائيل ـــ هو العائق أمام تسليح الجيش (كانت أميركا تقف ضد تسليح الجيش في السبعينيات عندما كانت الحكومات العربيّة ترصد مئات ملايين الدولارات لتسليح دول المواجهة والمساندة ـــ فيما لم يكن لبنان في حينه إلا دولة تتآمر لصالح العدوّ الإسرائيلي في الحروب العربيّة ـــ الاسرائيليّة). 
ما كان على رئيس الجمهوريّة ورئيس مجلس النوّاب اللبناني استقبال الضيف الأميركي. لبنان بلد صغير وضعيف، لكن هناك حد أدنى من الكرامة الوطنيّة. ومشهد استقبال ميشال عون لبومبيو كان فاتراً، ومثّل سابقة في استقبال حاكم عربي لضيف رسمي أميركي. لكن قصر بعبدا سرعان ما بدّد بعض البهجة التي دخلت إلى قلوب المشاهدين، إذ إن البيان الرسمي أكد أن الاستقبال كان وفق البروتوكول، وأن عون صافح في ما بعد كل أعضاء الوفد الأميركي. وهناك صور لتضاحك في اجتماع نبيه برّي وجبران باسيل مع بومبيو. هل كان يمكن لحسن نصر الله أن يستقبل موفداً أجنبيّاً أتى إلى لبنان بعد أن يصفَ حركة «أمل» أو «التيّار الوطني الحر» بالإرهابيّيْن؟ وماذا كان سيحلّ بوزير خارجيّة لبناني لو انه زار واشنطن وألقى خطباً عن أن الحزب الجمهوري أو الديموقراطي هو حزب إرهابي ويجب تأليب الرأي العام ضدّه؟ في هذا الحالة، كانت الحكومة الأميركيّة سترحّل هذا الضيف على أوّل طائرة. يجب أن لا يدع لبنان هذه السابقة: أن يزورها وزير أميركي ويستخدم الأرض اللبنانية ومواقع رسميّة لشن الحرب ضد طرف لبناني وإهانة فريق كبير من اللبنانيّين الناخبين. كان يمكن على الأقل الطلب من الوزير الأميركي عدم وصف الحزب اللبناني بالإرهابي من مقرّ وزارة الخارجيّة أو من الأراضي اللبنانيّة، وأن يفعل ذلك في أرض بلاده، في السفارة الأميركيّة في بيروت. 
وجبران باسيل بالغ كعادته في الحديث عن المغتربين اللبنانيّين في أميركا، حيث إنه شكر لأميركا احتضانها لهم. كيف احتضنت أميركا اللبنانيّين؟ أعيش في أميركا منذ عام ١٩٨٣ ولا أشعر بهذا الاحتضان بتاتاً. هل لديه ما لا نعلمه؟ اللبنانيّون يعملون ويدفعون الضرائب ولا منّة لأميركا عليهم. على العكس، كان يمكن باسيل أن يذكّر بالحملات العنصرية والطائفيّة ضد اللبنانيّين، لكنه تحدّث عن عمق العلاقة بين الشعبيْن الأميركي واللبناني. أي عمق علاقة هو هذا والشعب الأميركي في أكثره لا يمكن له أن يعثر على لبنان، لو كان لبنان وحده على الخريطة. وكيف يتحدّث باسيل عن «عمق» العلاقة بين الشعبيْن فيما يقف أمام وزير خارجيّة يصف أكبر حزب لبناني وجمهوره الذي يشكل أكبر كتلة انتخابيّة بأنه إرهابي؟ وقف باسيل أمام الضيف فيما قرّع الضيف وبأقسى العبارات حليفه الذي كان له الدور الأكبر في وصول ميشال عون إلى رئاسة الجمهوريّة (من دون التقليل من جهود نادر وأحمد الحريري الجبّارة). 
زيارة بومبيو لن تكفي لشدّ العصب، ولن تحيي 14 آذار، بالرغم من رغبة الحكومة الأميركيّة. لن تستطيع أميركا أن تفعل أكثر مما فعلت في 2005 ـــ 2006. شنّت حروباً سريّة وأطلقت فتنة وأنفقت على ميليشيات من أجل تغيير أهواء الشعب اللبناني، ونجحت في إذكاء نار الحرب الأهليّة أكثر من مرّة، إلا أن حزب الله فوّت عليها تلك الفرصة في 7 أيّار. تستطيع أميركا أن تكابر وأن تصدّق أحمد الأسعد بأن سبب حصوله على بضع عشرات من الأصوات (نال 165 صوتاً في آخر انتخابات) كان بسبب ترهيب حزب الله لأهل الجنوب. هناك شيعة يحوزون رضى النظام السعودي والحكومة الأميركيّة، لكن كل محاولات تنصيبهم فشلت فشلاً ذريعاً: بالمناسبة، نال إبراهيم شمس الدين مثلاً 62 صوتاً. الفارق بين أصوات شمس الدين والأصوات التي حصل عليها محمد رعد تكفي لإنشاء جيش عرمرمي. 
إن علوّ نبرة بومبيو وشدة لهجته لا يعبّران عن مشروع خطير تعدّه أميركا ضدّ حزب الله ـــ كما يتمنّى جماعة سيّدة البير وسيّدة الجبل ـــ بل إن هذه النبرة هي تعبير عن عدم وجود مشروع لمواجهة الحزب إلا بإعداد المزيد من القوائم الممنوعين أصحابها من زيارة أميركا (لن يتسنّى لمحمود قماطي زيارة «ديزني لاند»). وستشدّد أميركا من حصارها الاقتصادي ضد الحزب، لكن النظام المصرفي اللبناني هو ساحة للتخريب والربح الأميركي وعدم انهياره من مصلحتها. 
لا تخيب آمال حلفاء أميركا الصغار. لم يتعلّم فريق عدوان 2006 الذين كانوا يعدّون الدقائق الأولى للحرب طمعاً بسيناريو حرب الساعات الستّة. والذين توقّعوا في المعارضة السوريّة أن تنجدهم أميركا حصدوا خيبة فريق 14 آذار. لكن مع كل إدارة، يسيل لعاب فرقاء أميركا في العالم العربي. يظنّون أن خيار القوة المسلّحة لن يتغيّر وقد يستعر على ألا تصيبهم نيرانه. ينسى هؤلاء أن الذين واجهوا جيش العدوّ الاسرائيلي في 2006 لم يتوقّفوا عن مواجهة أميركا، وأن أميركا بالرغم من قوّتها وجبروتها هي قوة عظمى لكن مهزومة. ينسى هؤلاء أن الذين هزموا أميركا في لبنان في الثمانينيات كانوا أضعف بكثير من حزب الله اليوم. وخيارات الحرب الأميركيّة الكبرى في العالم العربي بعد هزيمة العراق لا يمكن أن يشنّها إلا مَن فقد عقله، حسب تعبير وزير الدفاع الأسبق، روبرت غيتس. 

* كاتب عربي (حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)