ساعة بعد ساعة، يوضح دونالد ترامب رؤيته للتعامل مع الهجوم اليمني غير المعتاد ضد السعودية، ليضع الأمر في خانة «الاستفادة» كالمعتاد، تحت سقف الحرب. وبعد أن استنفر لتهدئة الأسواق خوفاً من أي تبعات أخطر، وأكد عدم الحاجة إلى نفط الخليج، بدا الرئيس الأميركي أكثر هدوءاً عند تدارس الرد على العملية، معتبراً أنه مسؤولية سعودية فقط، وإن أبدى في الوقت نفسه استعداده لـ«المساعدة» مقابل المال.
لم تتوقّف تبعات الهجوم اليمني على منشأتي «أرامكو» شرق السعودية سياسياً واقتصادياً، فيما من المستبعد أن تتعافى الأطراف سريعاً من الحادث «غير المسبوق» ضد «النظام الدولي» كما وصفه وزير الدفاع الأميركي أمس. وبعد تردّد واضح ظهر على تصريحات المسؤولين السعوديين والأميركيين لجهة اتهام إيران، على رغم التلميحات، ومع مواقف أعادت التوتر إلى المنطقة بما يشبه المناخ غداة إسقاط إيران الطائرة الأميركية، وضع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، سقفاً للرد على هجمات «أرامكو»: «أودّ بالتأكيد تجنّب اندلاع حرب مع إيران». وإذ قال ترامب «يبدو أن إيران مسؤولة عن الهجوم على منشأتي النفط في السعودية»، فإنه عاد وأكد رغبته في عدم خوض حرب معها، وقال «الدبلوماسية لا تستنفد أبداً عندما يتعلّق الأمر بإيران… الخيار الدبلوماسي ما زال قائماً مع طهران، والإيرانيون يريدون عقد صفقة».
وذهب ترامب أكثر من ذلك في إيضاح موقفه، حيث نفى الالتزام بحماية النظام السعودي، مجدداً طلبه دفع المال. وقال: «سنساعد السعودية ويتعين على السعوديين تحمل المسؤولية الأكبر في ضمان أمنهم ويشمل ذلك دفع المال»، مضيفاً: «لم أَعِد السعوديين بحمايتهم، ولكننا سنساعدهم». وعقد البيت الأبيض اجتماعين في 24 ساعة للتباحث في هجمات «أرامكو»، حيث اطّلع الرئيس على إفادة وزرائه في شأن تبعات الهجمات واتصال وزير الدفاع مارك أسبر بنظيره السعودي محمد بن سلمان، وقرّر إرسال وفد إلى الرياض برئاسة وزير خارجيته، مايك بومبيو.
تصريحات ترامب، وإن بدت تخفيفاً لحدة الأزمة مع جعل التحرّك الأميركي يراوح بين خطين أحمرين: الحفاظ على إمدادات الطاقة وتجنّب الحرب، لا تمنع تحركاً واسعاً ضد إيران أو حلفائها لبلورة ردّ على ما وصفه البعض بـ«إعلان حرب على مصادر الطاقة»، ذلك الخط الأحمر الأميركي الذي يصعب تجاهله. وهاجم إسبر، الذي تباحث هاتفياً أمس مع ابن سلمان، طهران، متهماً إياها بتقويض «النظام الدولي» الذي شدد على أن بلاده ستعمل مع حلفائها للدفاع عنه. وأبدى إسبر دعم بلاده للمملكة، مشيراً إلى «درس كل الخيارات المتاحة لمواجهة هذه الاعتداءات».
ابن سلمان: التهديدات الإيرانية ليست موجّهة ضد السعودية وحسب بل ضد المنطقة والعالم
بدوره، اعتبر ولي العهد السعودي أن «التهديدات الإيرانية ليست موجهة ضد السعودية وحسب، بل ضد المنطقة والعالم»، في صياغة للموقف السعودي الذي يجمع بين التحريض ضد إيران والاحتماء بالحليف الأميركي، وهو ربما سبب تريّث الرياض في اتهام إيران بشكل مباشر وصريح، انتظاراً لجلاء الموقف الأميركي الذي أبقاه ترامب أمس في حدود الابتزاز، ولمّح فيه إلى رمي كرة الرد في الملعب السعودي، وهو ما تتجنب الرياض القيام به منفردة.
وقد بدا «التريّث» سمة بارزة في المواقف الصادرة من واشنطن والرياض. فلا اتهامات مباشرة رسمية لإيران من كلا الطرفين ولو مع التلميحات بتحميل إيران «المسؤولية»، إذ خرج موقف الحكومة السعودية، في بياني «التحالف» ووزارة الخارجية، رافضاً التبنّي اليمنيّ للعملية، ومشيراً إلى أن الأسلحة إيرانيةٌ لم تخرج من اليمن وأنها امتداد للهجمات ضد «أرامكو» بهدف ضرب إمدادات الطاقة العالمية. وتحدثت الخارجية عن استكمال التحقيقات وإشراك خبراء دوليين فيها، من دون الجزم بأن الهجمات انطلقت من الأراضي الإيرانية.
تصريحات ترامب عقب حركة الاتصالات المكثفة بين الرياض وواشنطن على المستويين السياسي والأمني، والتي انضمت إليها لندن أمس مبدية رغبتها في الاشتراك في «الرد الأنسب»، لا تعني استبعاد إقدام واشنطن على تنفيذ ردّ بغض النظر عن كيفية إخراجه، وتحت سقف تجنّب الحرب. في تصريحات ترامب لا شيء يلزم بالقيام بعمل عسكري ضد إيران، لكنّ جانباً من القراءات في الولايات المتحدة يعطي التطوّر طابعاً خطيراً، بموازاة التصريحات السعودية والأميركية والبريطانية حول ضرورة تنسيق ردّ مشترك. ونقلت وسائل إعلام أميركية أن واشنطن ترجّح انطلاق الهجمات من الأراضي الإيرانية، في حين نفى بومبيو أن تكون الهجمات انطلقت من الأراضي العراقية هذه المرة.
وبحسب «واشنطن بوست»، فإن البنتاغون يدعو إلى ضبط النفس، بينما تفكر إدارة ترامب في ردّ عسكريّ، وهو ما رفضه أعضاء في الكونغرس، كالسيناتور كريس ميرفي الذي نبّه إلى أنه «ليس لنا حلف دفاعيّ مشترك مع السعودية»، وأكد السيناتور بيرني ساندرز أن «الكونغرس لن يمنح ترامب السلطة لشنّ حرب كارثية، فقط لأن النظام الوحشي السعودي طلب منه ذلك». كما دعا السيناتور تيم كين إلى عدم الذهاب إلى حرب «لحماية النفط السعودي». صحيفة «وول ستريت جورنال» أكدت، بدرورها، تدارس الجانبين السعودي والأميركي شنّ هجمات انتقامية ضد المصالح الإيرانية. في غضون ذلك، نفى مصدر عسكري يمني لـ«الأخبار» أن تكون الهجمات تمت بواسطة صواريخ مجنّحة، مؤكداً أنها طائرات بعضها نفاث يستخدم للمرة الأولى. وتحفّظ المصدر على الكشف عن نوع السلاح المستخدم، لافتاً إلى أنه قد يتم عرض معلومات تفصيلية بحوزة صنعاء حول العملية في الساعات المقبلة على ضوء المواقف السعودية. وشدّد على أن كل الضجيج لن يثني صنعاء عن ردود فعل أخرى مقبلة لن تقلّ أهمية، خصوصاً أن «لا شيء يمكن أن يخسره اليمن».
«هستيريا» نفطية تصيب الأسواق
«لسنا بحاجة إلى نفطكم، لكننا سنساعدكم». بهذا، يكون دونالد ترامب قد اختصر موقف بلاده، بينما تحترق حليفته بنفطها، في أبلغ دلالة على أن أميركا تقف موقف المتفرج إزاء «المُصاب» الذي ألمّ بالمملكة. وذهب الرئيس الأميركي في ابتزازه حدّ دعوة الرياض إلى فتح احتياطياتها لتعويض النقص، بعدما توقف نصف إنتاجها جراء هجمات السبت. فهو قال، بصراحة، إن بلاده «ستُخرج الاحتياطي الاستراتيجي» متى استدعت الحاجة، لأن هناك «الكثير من النفط» المُخزّن في المملكة وفي غيرها من الدول. حدث ذلك بينما كانت السعودية تحاول لملمة خسائرها، ومنها أنها لم تعد جاهزة لطرح «أرامكو» للاكتتاب العام.
لم تستوعب الأسواق العالمية الصدمة. فجر يوم أمس، فتحت على ارتفاع في أسعار النفط ناهز 20%، إذ سجّل سعر خام «برنت» قرابة 72 دولاراً، قبل أن يغلق على 69 دولاراً، أي بارتفاع بلغ 14.51%. من الناحية العملية، فإن هجمات السبت على معمل بقيق وحقل خريص في الشرق السعودي وضعت النفط على «الطريق الصحيح»، بعدما حقق واحداً من أعلى مكاسبه في يوم واحد. ولكن خشية التجار تنصبّ راهناً على الوقت الذي ستستغرقه المملكة في إصلاح الأضرار التي تسبّبت في وقف نصف إنتاجها من الخام، بينما لا يزال غير واضح متى ستعود إلى دورة إنتاجها القصوى. ذلك قد يستغرق وقتاً أطول مما ذُكر سابقاً (أي أسابيع). التقدير الأخير، وفق مصادر «بلومبرغ»، يشير إلى أن السعودية تحتاج إلى أشهر للعودة إلى الإنتاج بطاقته الكاملة، ما يحبط الجهود الرامية إلى تهدئة الأسواق. وإذا صدقت التقديرات، فستكون الأسواق العالمية أمام تقلبات، قد تؤدي إلى زعزعة استقرار الاقتصاد العالمي.
تدرس السعودية إمكان تأخير طرح قسم من شركة «أرامكو» للاكتتاب العام
وفي وقت تراقب فيه الأسواق مدى قدرة المملكة على إعادة هذا القطاع إلى مساره الطبيعي، بعدما تسبّبت الهجمات بانخفاض حادّ في إمدادات النفط العالمية، أفاد الرئيس التنفيذي لمجموعة «أرامكو»، أمين ناصر، بأن العمل جارٍ لاستئناف الإنتاج بطاقته الكاملة، بينما أشار وزير الطاقة السعودي، عبد العزيز بن سلمان، إلى أن بلاده ستلجأ إلى احتياطياتها (188 مليون برميل) المخصّصة لأوقات الأزمات لتعويض الخسائر. لكن الاستعانة باحتياطيات المملكة الهائلة لامتصاص الصدمة يمكن أن يكون حلاً ناجعاً على الأمد القصير، أي إذا كانت فترة التوقف تقتصر على أسابيع قليلة (37 يوماً)، إذ سيتعيّن على «أرامكو»، بعد ذلك، خفض الصادرات، خصوصاً إذا استمر التوقف في الإنتاج لفترة طويلة. تزامن الإعلان الآنف مع «إجازة» ترامب استخدام نفط الاحتياطي الأميركي الاستراتيجي «عند الحاجة»، على رغم أن الاحتياطيات الأميركية الموجودة في مستودعات تكساس ولويزيانا تبلغ 645 مليون برميل، أي الكمية التي تستهلكها الولايات المتحدة في شهر واحد تقريباً. ولدى الأخيرة 416.1 مليون برميل من الاحتياطي التجاري، بحسب أحدث بيانات إدارة معلومات الطاقة. وقال الرئيس الأميركي: «لا نحتاج إلى نفط أو غاز الشرق الأوسط، لدينا في الحقيقة عدد قليل جداً من الناقلات هناك، لكننا سنساعد حلفاءنا».
وسعت وكالة الطاقة الدولية إلى تطمين الأسواق عبر قولها إنها «مموّنة بشكل جيد مع العديد من الاحتياطيات التجارية». في الإطار ذاته، حرص مسؤولون في كبرى الدول المصدرة للطاقة على تأكيد قدرة الأسواق العالمية على التعامل مع نقص الإمدادات من السعودية، إذ أفاد وزير الطاقة الإماراتي، سهيل المزروعي، بأن بلاده قادرة على زيادة الإنتاج لمواجهة أي تعطّل للإمدادات، ولكن من السابق لأوانه عقد اجتماع طارئ لمنظمة «أوبك»، بينما أكد نظيره الروسي، ألكسندر نوفاك، أن هناك مخزونات نفط تجارية كافية لتعويض النقص. وبحسب مصدر في «أوبك» تحدّث إلى «رويترز»، فإن الأمين العام للمنظمة، محمد باركيندو، بحث تطورات سوق النفط مع رئيس وكالة الطاقة الدولية، فاتح بيرول، وأبديا رضاهما في شأن «احتواء السلطات السعودية للوضع».
وفي حين لا تزال المملكة متحفظة إزاء الإعلان عن الأضرار الحقيقية التي طالت عملاق النفط، قالت «مصادر مطلعة» إن السلطات السعودية تدرس إمكان تأخير طرح قسم من شركة «أرامكو» للاكتتاب العام، والذي كان مخططاً في تشرين الثاني/ نوفمبر في سوق الأوراق المالية المحلية، قبل إدراجها دولياً العام المقبل. وبحسب مصادر «وول ستريت جورنال»، فإنَّ «من المتوقع أن تواصل الشركة تقديم عروضها التوضيحية للمحللين وعقد الاجتماعات مع المصرفيين كما كان مقرراً. غير أن مسؤولي الطاقة السعوديين والمديرين التنفيذيين لأرامكو يبحثون تعديل مواعيد الطرح الأولي إلى أن تستعيد الشركة مستويات إنتاجها الطبيعية».
الحرب الحقيقية
ارتفعت أسعار النفط بما يصل إلى 20% لتتجاوز 71 دولاراً للبرميل الواحد، وهي أكبر نسبة ارتفاع تُسجّل خلال ثلاثة عقود تقريباً، حيث أعيد فتح الأسواق بعد هجمات على البنية التحتية للنفط في المملكة السعودية، ما أدى إلى خفض إنتاج البلاد بأكثر من النصف. هذا واحد من أكبر التقلّبات في أسعار خام «برنت» في جلسة واحدة، ومنذ وقت طويل، إن لم تكن التقلّبات الأكبر على الإطلاق. وما جرى السبت يعتبر مشكلة كبيرة، لا بل ضخمة، بالنسبة إلى أسواق السلع. سوف يضحك المتداولون على الجانب الرابح من الرهان. لكن، ستكون هناك بعض الآثار الخطيرة على الجانب الآخر. ليس معروفاً إلى أي مدى ستتضرّر صناديق التحوّط للمنتجين والأموال المنتظمة، لكن من المحتمل أنه، في الأيام والأسابيع المقبلة، ستظهر بعض التفاصيل الاستثنائية حول «حمام الدم» الذي حدث.
النقطة الأساسية التي يجب تذكُّرها حول عالم صناديق السلع الموجّهة، هي أنه منذ تولّي دونالد ترامب زمام الأمور وتهديده بالحرب التجارية، أصبح المال «الذكي» شديد التركيز، إن لم يكن مهووساً بالرواية التي تفيد بأن الطلب العالمي سيتأثر بالتعريفات الجمركية وتباطؤ نمو التجارة. وقد أدى ذلك إلى هبوط على نطاق واسع في سوق العقود المستقبلية للنفط على مدى العام الماضي. ومع ذلك، فإن أولئك المهووسين بآثار «الحروب التجارية» ربما يكونون قد نسوا الحطب على الأشجار. فتلك الحروب ليست ذات صلة، هذا إذا كانت هناك فرصة للعالم بأن يذهب إلى الحرب.
قد يبدو ذلك قاطعاً، لكننا نعتقد أن من الضروري أن يذكر شخص ما الأمور على حقيقتها. وهنا، يكمن التناقض بين أسواق العالم الحقيقية وأسواق المقامرة الافتراضية.
في عالم الـ«بيتكوين»، فإن التقلبّات بنسبة 20% لا تعني شيئاً على الإطلاق. في أسواق السلع، تشير الدلائل المحتملة إلى أننا وصلنا إلى نقطة اللاعودة من حيث تسريع النزاع. ما ينبغي للمحللين أن يلاحظوه راهناً، ليس حجم الخسارة الاقتصادية الناجمة عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أو الحروب التجارية المستمرة، ولكن الدرجة التي لم تفضّل فيها ظروف الحرب معايير السوق الحرة. على العكس من ذلك، في مثل هذه الظروف، تتحوّل الاقتصادات إلى قمعية وحمائية وموجّهة نحو الإنتاج المحلي. كما أنها تصبح مهووسة بالأمن والطاقة. وبينما من المرجّح أن تضرّ الحروب التجارية بين الولايات المتحدة والصين بالاقتصادات ذات الصلة، أكثر من مساعدتها، فإن بطاقة ترامب الأساسية التي تحتفظ بها الولايات المتحدة تظلّ… أمن الطاقة.
(فايننشال تايمز – بتصرف)