الاخبار الاخبار السياسية

سيرة «الخليفة» المقتول: واشنطن حاضرة من المهد إلى اللحد

تعليقاً على مقتل زعيم «داعش»، أبو بكر البغدادي، قال الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إنه «قُتل كالكلب. لم يقتل كالبطل بل كجبان… أصبح العالم الآن أكثر أمناً»، ومن ثم خصّ بالشكر روسيا وتركيا وسوريا والعراق والأكراد السوريين. أما بريت ماك غورك، مبعوث الرئيس الأميركي الخاص السابق للحرب على «داعش»، فقد رأى أن مقتله نبأ عظيم للولايات المتحدة ولبقية «العالم المتحضر»، وهنّأ القوات الخاصة وجهاز الاستخبارات على «إنجازهم».

الولايات المتحدة والعالم «الغربي المتحضّر» الذي ما زالت تقوده إلى الآن يحتاجان بشدة في هذه الأيام إلى انتصارات، حتى لو كانت وهمية. قتل البغدادي، الذي كان مطارَداً ومطلوباً، حيّاً أو ميتاً، لأهم الأطراف الدولتية وغير الدولتية الحاضرة والمتنازعة في سوريا والعراق، بعد تدمير دولته العتيدة، هو أحد هذه الانتصارات الوهمية. قد يستفيد ترامب انتخابياً من هذا الصيد السهل، غير أن من بين نتائجه دفع خلايا «داعش» التي يعاد تشكيلها إلى استهداف القوات والمصالح الأميركية أولاً. من جهة ثانية، فإن قتل البغدادي، الذي انقطعت به السبل، لن يسمح بالتعمية على حقيقة أن مآلات الصراع في سوريا تأتي لمصلحة خصوم واشنطن.

بعد الإعلان عن موت زعيم «داعش»، بدأ بعض الأطراف في الإقليم يتبارى لإثبات أنه لعب الدور الحاسم قبل غيره في تسهيل وصول الأميركيين إليه. وبحسب خلية الإعلام الأمني التابعة لوزارة الدفاع العراقية، فإن «الاستخبارات العراقية هي من قدمت إلى الأميركيين المعلومات الدقيقة عن مكان وجود البغدادي في سوريا». «قسد»، من جهتها، كانت قد أعلنت، في بيان لها، عن مساعدتها للقوات الأميركية في العملية التي أدت إلى مقتله. معلومات أخرى أفادت بأن الاستخبارات التركية كانت لها مساهمة مهمة في كشف مخبأ البغدادي. مصدر مطلع أكد، لـ«الأخبار»، أن «هيئة تحرير الشام»، التي أخذت بخيار السعي لاكتساب الاعتراف الغربي بأيّ ثمن، وعبر تقديم قدر كبير جداً من التنازلات، شرعت لإثبات حسن نواياها في عملية احتواء وتحجيم وتصفية تدريجية لبقايا «القاعدة الأصلية» المجتمعين في ما يسمى «حراس الدين»، بالتعاون مع الاستخبارات التركية. ويشير المصدر إلى عدة عمليات اغتيال وقعت ضد مسؤولين في هذه المجموعة، كانت بتدبير من «هيئة تحرير الشام» أو بتواطؤ منها. وعلى الرغم من أن أغلبية «حراس الدين» كانوا على خلاف معلَن مع «داعش»، إلا أن جناحاً بينهم حافظ على صلات تعاون وتنسيق معه. هذا هو سبب إصدار «الحراس» بياناً في شباط الماضي يهدّد بالفصل من التنظيم والملاحقة القضائية كلّ من يحافظ على صلات مع «داعش». ووفقاً للمصدر، فإن البغدادي لجأ إلى عناصر من الجناح المذكور في الفترة التي تلت معركة الباغوز في الشرق السوري خلال آذار الماضي، والتي شهدت ازدهاراً قلّ نظيره لشبكات تهريب مقاتلي «داعش» باتجاه منطقة إدلب أو تركيا. «هيئة تحرير الشام»، التي لديها اختراقات في أوساط «الحراس»، علمت بوجود البغدادي، وأطلعت الاستخبارات التركية على ذلك.
قد نسمع في المقبل من الأيام روايات جديدة عن كيفية تحديد موقع البغدادي، وعن مشاركة جهات أخرى في هذه العملية. المؤكد هو أن الرجل بات هدفاً مشتركاً لجميع أفرقاء النزاع على الساحة السورية والعراقية، على رغم الصراع في ما بينهم، وأن موته لا يمكن أن يُحسَب إنجازاً نوعياً كما يجري تصويره. سيحفّز هذا الأمر أنصار «داعش»، بعد أن حاصرت القوات الأميركية زعيمهم ففضّل أن يفجر نفسه مع عائلته بدلاً من الاستسلام، على منح الأولوية لقتال الأميركيين قبل غيرهم. وعلى الأغلب، فان أنباء غير سارة ستلي تلك التي أفرحت ماك غورك وعالمه «المتحضّر».

بمقتل زعيمه أبو بكر البغدادي، يطوي تنظيم «داعش» حقبة جديدة من أطواره المتعددة، من دون أن يعني ذلك بالضرورة خفوت نجمه. وعلى الرغم من أن تقويض معاقل التنظيم في سوريا والعراق كان قد وضع نقطة في خاتمة مرحلة «إدارة التوحش»، إلا أن مقتل «الخليفة» يبدو الحدث الأنسب للتحول إلى علامة فارقة بين مرحلتين، لا سيّما في ضوء ما سينتهي إليه ملفّ اختيار «خليفة للخليفة المقتول».

قُتل أبو بكر البغدادي أخيراً. الرجل الذي بدأ رحلة صعوده عقب خروجه من سجن بوكا (سجن أميركي في العراق)، انتهت مسيرته بهجوم أميركي. وخلافاً لجميع المرّات السابقة التي راجت فيها معلومات عن استهدافه، حظيت الأنباء هذه المرة بتأكيد سريع وحاسم. صحيح أن الزعيم المتطرف لاقى مصيراً متوقعاً، إلا أن تفاصيل العملية التي أودت به وسياقاتها لا تقلّ أهمية عن نتيجتها، إن لم تكن أهم. لم تحمل العملية جديداً: رصدٌ ومتابعة، تعاونٌ استخباري من جهات مختلفة، يُجيَّر في المحصلة لمصلحة اللاعب الأميركي، ويُتوَّج باهتمام خاص بالجانب الاستعراضي. ثمة كثير من النقاط المهمة التي تستوجب التوقف عندها، لأنها كفيلة بتقديم مفاتيح حقيقية لقراءة موازين القوى والتحالفات بين عدد من اللاعبين الفاعلين في المنطقة، ولا شكّ في أن مسرح العملية يأتي على رأس تلك النقاط.

لماذا إدلب؟
لسنوات طويلة، كان البغدادي يتنقل في مناطق سماؤها مفتوحة أمام الطائرات الأميركية، وأرضها تعجّ بالمتعاونين مع واشنطن. ينطبق ذلك على مراحل صعود تنظيم «داعش»، كما على مراحل انحسار سيطرته الجغرافية، ثم تلاشيها بشكل شبه تام. ومما لا شك فيه أن اضطلاع التنظيم بدور وظيفي مهم في الحدثين السوري والعراقي كان كفيلاً بإرجاء أيّ عملية من هذا النوع، إلى مرحلة يكون استثمار الحدث فيها أكثر جدوى. هكذا، انتظر الأميركيون، ولم يقطفوا «رأس الخليفة» إلا داخل محافظة إدلب. على رأس الرسائل المهمة التي يبدو أن اللاعب الأميركي حريص على توجيهها هنا، أنه قادر على تحويل أيّ بقعة في سوريا إلى مسرح عمليات له، ولو كانت محسوبة على لاعبين آخرين. وعلى رغم أن هذه العملية ليست العملية الأميركية الأولى من نوعها في مناطق خاضعة للنفوذ الروسي، إلا أن الثقل النوعي للهدف هذه المرة كفيلٌ بإضفاء دلالات خاصة على «الاختراق». ويبدو أن ثمة مساهمة إقليمية فاعلة جاءت من بغداد، لتؤكد مجدداً أن المسرح العراقي لا يزال حاملاً حيوياً للحضور الأميركي في المنطقة برمّتها، بل وأن هذا الحضور في سبيله إلى التجذّر أكثر فأكثر، مع الخروج الأميركي التدريجي من سوريا. من بين النقاط اللافتة أيضاً، يبرز التعاون التركي في تنفيذ العملية. لم تكن هناك حاجة إلى انتظار صدور تأكيد رسمي تركي للجزم بتعاون أنقرة مع واشنطن في سبيل تسهيل العملية. مع ذلك، جاء التأكيد ليقطع الشك في اليقين، وليقول إن أنقرة تبقى أقرب إلى واشنطن منها إلى موسكو، مهما بلغت التعقيدات السياسية في العلاقة بين الطرفين.

ليس من المتوقع أن تترك تصفية «الخليفة» تأثيراً فعلياً على عمل التنظيم

على المقلب الآخر، يبدو لافتاً أيضاً أن واشنطن فضّلت تنفيذ عملية بهذا الحجم في بيئة محسوبة على الأتراك، ولم تُقدِم عليها في سنوات الشراكة مع «قوات سوريا الديمقراطية»، وداخل الحيّز الجغرافي الذي تَشارك الطرفان السيطرة عليه. لا يعني هذا نفي احتمال حدوث محاولات سابقة، أو عمليات فاشلة لم يُكشف عنها بالتعاون بين واشنطن و«قسد»، لكن «العبرة في الخواتيم»، والخواتيم تقول إن أنقرة هي من شارك في تحقيق هذا «النصر»، لا «قسد». سيُقال الكثير عن الثمن الذي قد تكون أنقرة حصلت عليه، أو وُعدت به في مقابل تعاونها، لكن الأهم أن اللاعب التركي قرّر المجاهرة باضطلاعه بدور مهم في العملية، من دون أن تعيقه عن ذلك حسابات ردود الفعل الانتقامية المحتملة. وأكدت وزارة الدفاع التركية، في بيان لها، حدوث تبادل معلومات وتنسيق بين السلطات العسكرية التركية والأميركية. ويبدو لافتاً في هذا الإطار ما تداولته مصادر «جهادية» عن وجود تعاون بين أنقرة و«هيئة تحرير الشام».

تعاون «جهادي»؟
أكد بعض المصادر غير الرسمية أن قيادة «هيئة تحرير الشام» كانت قد «أخطرت نقاطها العسكرية في سرمدا وباريشا بأن حوامات تركية ستدخل المنطقة على ارتفاع منخفض». وعلى رغم أن كلام المصادر قد يندرج في إطار تراشق الاتهامات، إلا أن سيناريو التعاون اللوجيستي بين «تحرير الشام» وأنقرة ليس مستبعداً على الإطلاق. ويجدر التذكير بأن مصادر عديدة كانت قد أكدت قبل قرابة شهر عودة الحرارة إلى خطوط التنسيق بين أنقرة و«الهيئة»، استعداداً لتنفيذ «صفقات قذرة» (راجع «الأخبار» 12 تشرين الأول 2019). وكانت مصادر جهادية عديدة قد تداولت أنباءً في أثناء تنفيذ العملية، من دون أن يكون واضحاً حينها ما هو هدف الأخيرة، قبل أن يتكشّف الأمر لاحقاً، ويتجدد الحديث عن تعاون «الهيئة» مع الأتراك. ووصلت العلاقة بين الطرفين إلى لحظات مفصلية كثيرة، غير أنهما عرفا دائماً كيف يتجاوزانها، بما يخدم مصالح مشتركة (مؤقتة). ويصعب تصور دخول البغدادي إلى إدلب، ومكوثه في إحدى مناطقها، من دون أن تمتلك «تحرير الشام» معلومات أو معطيات تجعل هذا الاحتمال قيد البحث على الأقلّ. وأثبت «الجهاز الأمني للهيئة» مرات عديدة «كفاءته» في ما يتعلّق باستهداف «خلايا داعش» داخل إدلب على وجه الخصوص. كما أن توجيه أصابع الاتهام إلى أبو محمد الجولاني وخلاياه الأمنية في شأن تسهيل استهداف وجوه «جهادية» بارزة كان حاضراً باستمرار، سواء عند استهداف قيادات «قاعدية» كما حصل غير مرة، أو مع استهداف كوادر من تنظيمَي «حراس الدين» و«أنصار التوحيد» في نهاية شهر آب الماضي.

«داعش» الغد: من يخلف «الخليفة»؟
من بين الأسئلة الأكثر إلحاحاً اليوم، يبرز واحد مرتبط بتأثيرات تصفية البغدادي على مستقبل تنظيم «داعش»، ومستقبل «الحركة الجهادية» بالعموم. وليس من المتوقع أن تترك تصفية «الخليفة» تأثيراً فعلياً على عمل التنظيم، بفعل عوامل عدة، من بينها البنية التنظيمية «الهرمية» التي تحكم «داعش» منذ مطلع العقد الحالي (راجع «الأخبار» 10 تموز 2014). وخضعت هذه الهيكلية لتعديل شديد الأهمية، مع فقدان التنظيم قدرته على التحكم في الجغرافيا، لتتحول «إدارة التنظيم» إلى نمط من «اللامركزية»، بحيث يتاح لزعماء الخلايا اتخاذ القرارات بمعزل عن رأس الهرم. ويسهم في انخفاض التأثيرات المحتملة، توزع الولاءات التي راكمها «داعش» على بقع جغرافية متباعدة، تفصل بين بعضها قارّات. وعلى رغم أن «ولايات داعش» حول العالم كانت قد نشأت إبّان صعوده، وفي مرحلة تحصيل «البيعات»، إلا أن هذه «الولايات» لم تتأثر فعلياً بسقوط معاقل التنظيم في سوريا والعراق. ويُردّ ذلك إلى أن تبعية معظمها لـ«الخلافة» كانت رمزية. على أن تصفية البغدادي قد تؤدي إلى تحلّل بعض الجماعات من «بيعتها» له، من دون أن يعني ذلك زوال خطر تلك الجماعات. ولا شك في أن شخصية «خليفة البغدادي» ستلعب دوراً مهماً في مسألة «البيعات»، ومدى إمكانية حفاظ التنظيم عليها. ومع أن مصادر عديدة ترجّح بقاء أمر زعامة التنظيم في حوزة العراقيين، فإن تبدل موازين القوى داخل التنظيم نفسه يجعل الأمر مفتوحاً أمام احتمالات كثيرة. ويبرز من بين المرشحين المحتملين أبو الوليد الصحراوي، زعيم «الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى» (راجع «الأخبار»، 30 نيسان 2019). أيضاً، يبرز السعودي أبو عبد الرحمن الجزراوي، والعراقي عبد الله قرداش، مع الإشارة إلى أن وجود الإثنين على قيد الحياة مسألة غير محسومة، في ظلّ معلومات تم تداولها مرات عديدة عن مقتلهما. كما تداول بعض المصادر اسم أبو عثمان الفرنسي (دوس سانتوس)، أحد جلّادي التنظيم، بوصفه مرشحاً محتملاً. وتجدر الإشارة إلى نقطة حاسمة في مسألة اختيار خلف للبغدادي، قوامها أن بعض الأدبيات «الجهادية» تنص على ضرورة تمتع «الخليفة» بنسبٍ قُرشي (نسبة إلى قبيلة قريش)، وهو أمر غير متوافر في معظم الأسماء المتداولة. ولن يكون مستبعداً التفاف «مجلس الشورى» على هذه الجزئية، أو استغلالها لإيصال شخصية غامضة إلى رأس التنظيم، في صورة تستنسخ سيرة البغدادي نفسه.

البغدادي في سطور
هو إبراهيم بن عواد بن إبراهيم البدري، من مواليد سامراء في العراق عام 1971. كان يلقّب بـ«الكرار»، ويُكنّى «أبو دعاء». تُفيد إحدى الروايات السائدة بأنه تخرّج في الجامعة الإسلامية في بغداد، وحصل منها على الماجيستر ثم الدكتوراه، فيما ينفي بعض المصادر «الجهادية» المناوئة للتنظيم حصوله على الدكتوراه. مثّل انتماؤه إلى عشيرة «البوبدري» أحد عوامل قوته. ووفقاً لتصريحات أدلى بها مسؤول في وزارة الداخلية العراقية في كانون الأول 2012، فإن البغدادي «سبق أن اعتُقل في سجن بوكا في البصرة». أسهم البغدادي في تأسيس الكثير من الجماعات الجهادية، ومنها «جيش أهل السنّة والجماعة»، وشغل فيه منصب «أمير القسم الشرعي». كما اختير عضواً في «مجلس شورى المجاهدين»، وكان من المقرّبين إلى أبو عمر البغدادي «مؤسس دولة العراق الإسلامية». «بويع أميراً لدولة العراق الإسلامية» في 16 أيار 2010، ثم أصبح في نيسان 2013 «أمير الدولة الإسلامية في العراق والشام». وفي 29 حزيران الماضي، أُعلنت «مبايعته خليفةً للمسلمين».

مقتلة البغدادي: ترامب يقرّش انتصاراً وهمياً

لعلّ أسوأ ما في ميتة البغدادي، أن العالم وقع رهينة انبهار أميركي جديد سيكون مضطرّاً إلى «معانقته» لفترة طويلة. ماذا حدث؟ «شيءٌ ما كبير حدث للتوّ». استبق دونالد ترامب إعلانه «الكبير» بتلك العبارة. خرج بعده ليزفّ النبأ: «أبو بكر البغدادي قُتِل» أخيراً. «أنجزنا» نهاية الخلافة والخليفة معاً، في العام ذاته (2019). كانت تلك المهمّة في صلب وعوده الانتخابية، و«الأولوية المطلقة» لإدارته، وربّما تمثّل عاملاً حاسماً لإعادة انتخابه في 2020.

 

لا يمكن فصل عملية قتل البغدادي عن التوقيت الذي حدثت فيه، إذ تجيء وسط معارك طاحنة ترخي بثقلها على إدارة رئيس يسعى خصومه إلى لَيّ ذراعه داخلياً، فيما يتقدّم التحقيق تمهيداً لمساءلته، مضافاً إليه تشكيك هؤلاء بوجود سياسة خارجية ترتكز عليها الإدارة الحالية. بيدَ أن مقتل البغدادي يمثّل مكسباً مهماً لترامب بعد قراره سحب القوات الأميركية من سوريا، والانتقادات الحادّة التي طاولته، والقلق من عودة «داعش» لتنظيم صفوفه. من هنا، جاء إعلان الرئيس ليبدّد «مخاوف القلقين»، وليؤكد لهؤلاء، مجدداً، أنه «باقٍ لتأمين النفط».
واقعاً، استثمرت واشنطن، وعلى مدى سنوات أربع، في الحرب على «داعش». تموضعت الوعود منذ عهد الرئيس السابق، باراك أوباما، الذي أطلق يدَ «التحالف الدولي» في سوريا والعراق، بـ«القضاء» على التنظيم، في دائرة النفاق الذي طبع السلوك الأميركي. بيد أن الإدارة السابقة، وفي العامين الأولين، لم تفعل الكثير، سوى غارات موضعية محدّدة في مناسبات متفرّقة، لم تغيّر في الواقع الميداني ما يُذكر. بحلول 2017، باتت الصورة أوضح مع تسلّم ترامب مهامه الرئاسية. نرلت القوات الأميركية إلى الأرض، وتعزّز التحالف مع الأكراد، إلى أن أُعلن «القضاء على الخلافة» في الثالث والعشرين من آذار/ مارس الماضي. لكن قبل ذلك وبعده، أعلن ترامب، مراراً، عزمه على الانسحاب من سوريا، إلى أن بدأ التنفيذ عملياً خلال الأسابيع القليلة الماضية.

رواية ترامب لـ«كايلا مولر»
وَصَف ترامب بالتفصيل الدقيق العملية العسكرية (سُمِّيت «كايلا مولر» تيمّناً برهينة قُتلت مطلع شباط/ فبراير 2015، أثناء احتجازها لدى التنظيم) التي أدّت إلى مقتل البغدادي. روى خلال 48 دقيقة تفاصيل لا تُروَى عادةً في إعلانات كهذه. تحدّث عن توقيت معرفته بالعملية، وحضوره قاعة الإعلان، وكيف جرت العملية، ثمّ كيف مات الجميع، بمَن فيهم زوجتا البغدادي وأطفاله، ولم يبخل في تقديم بعض السرد للحظة المقتلة. عند الساعة التاسعة صباحاً، بتوقيت واشنطن، أخطر ترامب العالم، من البيت الأبيض أن «أبا بكر البغدادي قُتِل»، بينما تسنّى له مشاهدة العملية بشكل مباشر عبر الكاميرات التي جُهّز بها عناصر من القوات الخاصة: «كان الأمر أشبه بمشاهدة فيلم سينمائي».

ترامب: بن لادن كان إنجازاً كبيراً بحجم برجَي التجارة العالميَّين، لكن البغدادي بنى دولة

في جلسة أسئلة وأجوبة طويلة، لفت الرئيس إلى أن زعيم التنظيم كان «تحت المراقبة منذ أسبوعين»، وفور تأكيد موقعه، بدأت «مجموعة كبيرة» من القوات الأميركية الخاصة و«ثماني مروحيات» «الغارة». كان على تلك القوة عبور منطقة خطرة إلى شمال غرب سوريا، والتحليق لمدة تصل إلى ساعة و10 دقائق. «لقد حلّقنا على ارتفاع منخفض جداً جداً وبسرعة كبيرة. ولكن ذلك كان جزءاً كبيراً وخطيراً جداً من العملية. الدخول والخروج… كان هناك احتمال أن نواجه قوة نيران هائلة». وعندما هبطت المروحيات على المجمّع المُستهدَف «فُتح باب الجحيم». حينها، خرج «طاقم كبير من المقاتلين الرائعين ركضاً من مروحياتهم، وقاموا بتفجيرات لفتح ثُغر في جانب المبنى» لتجنّب الفخاخ المزروعة على الأبواب. قادة القوات أبلغوا عن تقدّمهم خطوة بخطوة، وقالوا إنه تم إخراج 11 طفلاً أحياء، كما تم أسر آخرين. وقُتلت زوجتا البغدادي. وبعد ذلك، جاءت المكالمة التي كان ينتظرها الجميع: «سيّدي، لا يوجد سوى شخص واحد في المبنى. نحن متأكدون أنه في النفق يحاول الهروب، لكنه نفق مسدود». بحسب الرواية التي سردها ترامب، أخذ ثلاثة من أولاده معه في النفق، لكن وجودهم لم يكن ليمنع المحتوم. أرسلت القوات الأميركية الكلاب إلى النفق، وقام البغدادي بـ«تفجير نفسه». «لم يمت بطلاً، بل جباناً، فقد كان يبكي وينتحب ويصرخ، وجلب أولاده الثلاثة معه ليموتوا. لقد كان موتاً محتّماً. وكان يعلم أن النفق مسدود». وقال إن القوات الخاصة بقيت في المجمّع نحو ساعتين، ومع ذلك «لم نخسر أحداً، ما رأيكم بذلك؟»، ولكن في الحقيقة، كانت هناك إصابة في الجانب الأميركي: «لقد أصيب كلبنا»!
ساعات قبل إعلان ترامب، سارعت «قوات سوريا الديموقراطية» إلى الإعلان عن عملية «مشتركة» مع الأميركيين انتهت بمقتل البغدادي، بينما أكد جهاز المخابرات الوطني العراقي أنه قدّم معلومات إلى القوات الأميركية حدّدت مكان اختباء زعيم التنظيم، لكن ترامب سعى في خلال كلمته إلى التقليل، وخصوصاً، من دور الأكراد. وحين وجّه شكره، ذكر، مِن ضمن مَن ذكر، روسيا وسوريا وتركيا والعراق على التوالي، والأكراد الذين «استطاعوا أن يقدّموا لنا دعماً محدوداً». لاحقاً، سيعود ترامب ليشكر موسكو لدى إجابته عن أسئلة الصحافيين، وهو قال إنها أدّت دوراً «عظيماً»، بينما كان لبغداد دور «ممتاز» في العملية. قال أيضاً إن روسيا تلقّت معلومات عن العملية: «أخبرناهم أننا سندخل… وهم شكرونا أننا أبلغناهم. لكنهم لم يعرفوا طبيعة المهمة». «كانت هناك فقط قوات أميركية في العملية، لكن الروس فتحوا لنا المجال الجوي السوري» في إدلب، وهو ما نفته وزارة الدفاع الروسية، قائلة إنها لا تملك أيّ دلائل موثوقة تؤكد مقتل زعيم «داعش»، مع إشارتها إلى أنها لم ترصد أيّ ضربات جوية من قِبَل الطيران الأميركي أو «التحالف» على منطقة إدلب في الأيام القلية الماضية.
نقطة إضافية أضاء عليها ترامب، حيث أشار إلى أن مقتل البغدادي شكّل لحظة أكبر من مقتل أسامة بن لادن في عام 2011، في ظلّ إدارة باراك أوباما. قال: «هذا أهم ما استحوذنا عليه على الإطلاق»، بمعنى آخر «هذا أكبر شيء على الإطلاق. بن لادن كان إنجازاً كبيراً، بحجم برجَي التجارة العالميَّين، لكن هذا الرجل (البغدادي)، بنى، كما يسمّيها، دولة».