في لقاءات باريس التي عُقدت أخيراً للبحث في الأزمة اللبنانية، بدا الموقف الأميركي سلبياً، لكن من دون حدّة، تجاه الطروحات الفرنسية وطرق مقاربتها للحل. فالأميركيون متريّثون في دعم المسارعة الفرنسية لوضع أطر لا تتماشى مع النظرة الأميركية الحالية إلى لبنان والمنطقة. والفرنسيون، بحسب الرؤية الأميركية، ميّالون إلى إبقاء كل سبل التواصل مفتوحة مع إيران، ومع حزب الله لبنانياً. وهذا الأمر لم يخفه الفرنسيون، لا سياسياً ولا اقتصادياً بسبب مجموعة من المصالح المترابطة والمزمنة. لذلك، فإن نظرتهم تجاه الأزمة الحالية تنطلق من واقع مصالحهم الخاصة الاقتصادية، ومصالحهم السياسية في إبقاء التسوية السياسية قائمة بكل أركانها، وفي تشكيل حكومة برئاسة الرئيس سعد الحريري. لكن باريس لم تتمكن من إقناع لندن أو واشنطن بذلك. لذا جاءت زيارة الموفد البريطاني ريتشارد مور استطلاعية للاستماع في شكل أوضح، ومباشر، إلى حقيقة ما يجري في بيروت، بعد التناقض في النظرتين الفرنسية والأميركية، وظهور الموقف الفرنسي مبالغاً في تصوير واقع الأمور على الأرض بأنه قابل للسيطرة والاحتواء، وأن إحياء التسوية كفيل بإنهاء الأزمة اللبنانية. علماً أن لندن لا تتدخل عادة في مثل هذه المَهمات المتروكة غالباً لباريس وواشنطن، ولذلك كان موقف موفدها مقتصراً في شكل واضح على ضرورة حماية المتظاهرين، وحقهم في التظاهر سلمياً تحت سقف موقف مجلس الأمن في النقطة نفسها، من دون الدخول في أي من البنود السياسية الأخرى. وهذا يعكس جانباً أساسياً من الرؤية الدولية للأزمة الحالية التي باتت متشعّبة، فلا تتوحد حول موقف واحد يظهر بتقديم خريطة طريق ولو للتفاوض حولها، خصوصاً أن كل الكلام، الرسمي وغير الرسمي الذي يُنقَل إلى الخارج، لا يشجع على الدخول بقوة على خط وضع الأزمة اللبنانية في مقدم اهتمامات العواصم المعنية.
هذه المقاربات المختلفة لواقع الأزمة الداخلية وسبل الخروج منها، مرشّحة لأن تأخذ مداها أكثر في الأيام المقبلة، لا سيما بعدما انكسرت إحدى الحلقات الأساسية التي كان الفرنسيون يعوّلون عليها في إعادة إحياء التسوية ومعها إنعاش الوضع الاقتصادي وسحب فتيل التشنج الأمني معه، بإعلان الحريري عدم رغبته في ترؤس الحكومة. فمستقبل الوضع اللبناني لم يعد مرهوناً بنتيجة المشاورات الحكومية وتسمية رئيس مكلف جديد للحكومة، ولا بطرح حلول لأزمة مالية واقتصادية مرشحة لأن تتضاعف حدتها يوماً بعد آخر، لأن تداعيات الأزمة الداخلية باتت متعلقة بمشهد إقليمي أوسع. فلبنان قبل 17 تشرين الأول كان لا يزال يعيش على وقع تقاطعات إقليمية ودولية تحميه من أي سقوط أمني خارجي، كما حصل حين وصلت الأمور إلى ذروتها مع إسرائيل، وداخلياً مع حماية التحالفات الطائفية والسياسية والتسوية التي جاءت بتركيبة عجائبية ضمّت أركان الطبقة السياسية. بعد 17 تشرين الأول، اتخذ المشهد اللبناني بعداً آخر، ليس لأنه تزامن مع تظاهرات العراق فحسب، بل لأنه أعاد بيروت إلى خط التماس والتوتر الإقليمي وانعكاسه داخلياً، في وقت تغرق كل دول المنطقة الفاعلة في أزماتها الداخلية. فإيران كأكبر لاعب إقليمي منشغلة بأوضاع الساحات التي لها يد طولى فيها من العراق إلى سوريا قبل أن تصل إلى لبنان، وبأوضاعها الاقتصادية والاحتجاجات فيها، وتركيا منغمسة في تتبع آثار تدخلها في سوريا، وإسرائيل مشغولة بأوضاعها الداخلية ونتائج انتخاباتها وتشكيل الحكومة فيها. وهكذا هي حال الرعاة الدوليين، فواشنطن رغم حرصها على تصعيد خطابها ضد إيران وعقوباتها عليها وعلى حزب الله، إلا أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب مشغول بأزماته والحملات الداخلية ضده والانتخابات الرئاسية. في حين تحاول روسيا التفتيش عن موطئ قدم لبناني، بعد سوريا، وهي تحاول في ظل انشغالات دول المنطقة، أن تؤدي دوراً ما في أزمة بات حلها يحتاج إلى إخراج دولي.
التجارب أثبتت أنّه كلما زادت أزمة لبنانية عن حدّها تفرّعت منها أزمات مالية واقتصادية وأمنية وطائفية
في ظل مشهد متشابك ومتوتر لدول متصارعة، يساهم في تعميق الأزمات الإقليمية، تكون المخارج عادة إما الذهاب إلى صدام وحروب، وإما الجلوس إلى طاولة مفاوضات. من هنا يمكن الكلام عن أزمة لبنان التي انفجرت في توقيت إقليمي متشنّج، لجهة المسؤوليات التي ساهمت في إذكائها، بدل احتوائها من اللحظات الأولى. فتجارب الحرب والسلم الطويلة دلت على أنه كلما زادت أزمة لبنانية عن حدّها، تفرّعت منها أزمات كثيرة، مالية واقتصادية وأمنية وطائفية. فكيف الحال إذا توافرت كل هذه العوامل حالياً، مترافقة مع انشغال إقليمي ودولي عن لبنان، ومع تخلّ داخلي عن موجبات منطقية لمعالجة الأزمات واحدة تلو الأخرى. وهذا يقود إلى خلاصة يختصرها مطّلعون على جوانب من محادثات دبلوماسية غربية، أن الأزمة الحالية لا تزال في بداياتها، وأن ترك الأوضاع المالية والاقتصادية تفلت، كما التدهور على المستوى السياسي، يعني أن المعالجات ستكون مبهمة، طالما لا تزال أسباب التفجّر المفاجئ لكل الحالة الراهنة، سياسياً وأمنياً واقتصادياً حتى هذه اللحظة غير معروفة بالكامل. وهذا يطرح أمام الداخل والخارج تحديات على مستوى مستقبل الحالة الشعبية في الشارع ومصيرها، كما مصير أركان السلطة الحالية. لأن عملية الاستشارات والتكليف لم تكن في صلب المطالبات الشعبية، وهي وسيلة وليست غاية في حد ذاتها، ووجود ممثلين مباشرين لأركان السلطة في أي حكومة، يعني أن هؤلاء سيحافظون على قوتهم وحضورهم الفعلي، لا بل سيكون حضورهم أقوى وأقسى نتيجة ردة الفعل على كمّ الاستهدافات ضدهم. والاحتكاكات التي بدأت في أكثر من منطقة بين «شارعين» مؤشر مقلق إلى مرحلة قد تكون أكثر حساسية وحدة، في وقت انشغال إقليمي ودولي عن لبنان.
مواجهات حزبيّة في الشارع!
لليلة الثانية على التوالي، استمر التوتر على «خط التماس» الفاصل بين الشياح وعين الرمانة. مناصرو حركة أمل وحزب الله مقابل مناصري القوات والكتائب. ما بينهما فصل الجيش اللبناني، مانعاً أي احتكاك مباشر.
وعلى المنوال نفسه، كان مفرق القصر الجمهوري في بعبدا قد شهد توتراً وصداماً بين مناصري حزب سبعة ومناصري التيار الوطني الحر. كذلك تواجه مناصرون للكتائب مع مناصرين للتيار الوطني الحر، قيل إنهم كانوا يريدون الاعتصام أمام منزل الرئيس أمين الجميل في بكفيا، وهو ما نفاه آخرون أكدوا أن شباب التيار كانوا في مسيرة سيارة، وقد منعهم أنصار آل الجميّل من إكمال طريقهم عندما وصلوا إلى بكفيا. بالمحصلة، شهدت ساحة البلدة انتشاراً كثيفاً للجيش، الذي عمد إلى تأمين مرور سيارات التيار وتفريق المتظاهرين عبر إطلاق النار في الهواء واستعمال الهراوات، وسط تدافع ورمي للزجاجات الفارغة على المارين. وقد أعلن الصليب الأحمر، على الأثر، نقل ثلاثة مصابين إلى المستشفيات.
الحصة الأكبر من التوتر الأمني كانت لطرابلس، حيث حاولت مجموعات مهاجمةَ مكتب التيار الوطني الحر في شارع الجميزات. وتصدى الجيش لهذه المجموعات، ما أدى إلى وقوع عشرات الجرحى في المناوشات التي استمرّت لساعات. وانتهت الجولة بإزالة علم التيار عن مكتبه!