الاخبار الدراسات

القائد الأممي

بعد أيام على اغتيال اللواء قاسم سليماني، كان ديوسدادو كابيلّو، أحد أقوى الشخصيات في الحكم في فنزويلا (في العسكر كما بين المدنيين)، يلقي خطاباً في التجمع العالمي المناهض للإمبريالية، فافتتحه بطلب وقوف الحاضرين تحية «للشهيد الكبير الجنرال قاسم سليماني، الذي اغتيل على يد الإرهاب الأميركي الشمالي».

الرجل الذي أنقذ هيوغو شافيز من انقلاب العام 2002 وساهم في إنقاذ بلاده من محاولات انقلابية أخرى لاحقاً، لم يكن يتحدّث عن شهيد محور المقاومة من منطلق «التضامن الثوري» حصراً. هو يرى في إيران داعماً لبلاده أيضاً. توقيت الخطاب سبق بستة أشهر وصول شحنات البنزين الإيراني إلى فنزويلا. لكنه تلا سنوات من التعاون بين طهران وكاراكاس في نواحي شتى، أبرزها الجانب العسكري الذي قلما يُصرّح عنه المسؤولون في البلدين. هناك برنامج عمل، هدفه تعويض النقص الذي تعانيه فنزويلا في قطع غيار الأسلحة والطائرات بسبب الحصار الأميركي، إذ سبق لإيران أن خاضت تجربة مشابهة مع جزء من سلاحها الأميركي الصنع مذ كانت تحت حكم الشاه. لكن الأهم هو مساعدة إيران لكاراكاس على مأسسة «الميليشيات الشعبية» في الدولة اللاتينية، لحماية نظام الحُكم من الانقلابات. طيف قاسم سليماني كان حاضراً في كل هذه الميادين.
لكن كابيلّو كان ينطق بلسان تيار عريض في «الوطن اللاتيني الكبير». هذا التيار اليساري، سواء في الحكم أو خارجه، يرى في إيران الثورة، ومحور المقاومة، حليفاً موضوعياً. ففي تلك البلاد، ومنذ أكثر من 120 عاماً، كانت غالبية التجارب الاستقلالية الحقيقية تصطدم بالسياسات التوسعية للشمال. كان القائد الوطني الكوبي، الشهيد خوسي مارتي، من أوائل الذين تنبّهوا إلى هذه المعضلة، حيث لا تزال أطماع «أميركا الشمالية» هي العائق الأول أمام الاستقلال في أميركا الجنوبية.
يوم أمس، لاقى الرئيس البوليفي السابق وزعيم التحالف اليساري الحاكم في بلاده، إيفو موراليس، كابيلّو، ليصف سليماني بأنه أحد «أبطال القتال ضد الإمبريالية وشهدائه في العالم». كان موراليس أيضاً ينطق باسم التيار نفسه. هذا التيار الذي يرى أن تطوير بلاده وتحسين حياة السكان فيها يمران حتماً بمواجهة العدوانية الإمبريالية الأميركية.

هي الحرب الكبرى التي يجب أن تُخاض، بالصورة نفسها التي خيضت بها بعد عام 1982، انطلاقاً من لبنان

استحضار كابيلّو وموراليس (من بين عشرات الأمثلة في أميركا اللاتينية) لا يهدف إلى «افتعال» بُعد أممي لشخصية سليماني. فهذا البُعد موجود فعلاً. ويندر، في العقود الأخيرة على الأقل، العثور على شخصيات يترك حضورها، كما غيابها، أثراً كبيراً في كل دول الإقليم، وصولاً إلى «أقاصي» العالم، كما هي حال سليماني. على مدى 22 عاماً، كان سليماني يعمل كوزير ثانٍ لخارجية إيران، ورئيساً ثانياً لجهاز استخباراتها الخارجية، وقائداً لقواتها خارج الحدود، وسفيراً فوق العادة لقائدها، وصلة وصل بينها وبين حلفائها، كما بين الحلفاء أنفسهم. وفي جميع الأدوار، لم يكن الحاج قاسم منفذاً لسياسات وحسب، بل صانعاً لها، ومشاركاً في رسمها. يمكن النظر إلى دوره في الحرب السورية، بعد عام 2012، كمثال اعتمده في كل عمله. ابتدع تجربة «الممرات الآمنة»: طرق يصل طول بعضها إلى عشرات الكيلومترات (وأحياناً المئات)، تخترق «أراضي العدو»، لتصل «الأراضي المحررة» بعضها بالبعض الآخر، وتسمح بنقل آمن للمقاتلين والسلاح والمال والغذاء والوقود وما يلزم للحياة، وتغيّر مجرى المعارك. هكذا كان يفعل أيضاً بين الحلفاء، في الإقليم وحول العالم.
يصعب، بعد مرور عام على اغتياله، سدّ الثغرة التي خلّفها غيابه. والمحور الذي كان أحد قادته، مُلزم، بعد مرور 12 شهراً على الجريمة، بالرد على قتله غيلة، مع رفيقه القائد أبو مهدي المهندس. وهذا الرد ليس للثأر حصراً، بل هو، أولاً، لإعادة ميزان حياة المحور إلى ما كان عليه قبل الثالث من كانون الثاني 2020. والرد هنا لا يكون، بإيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر البشرية في صفوف العدو، على المستويات كلها، وحسب. فموازين القوى تَحُول، حتماً، دون التكافؤ في الضربات. الرد، في المقام الأول، هو في توسيع المساحات الآمنة، عسكرياً وأمنياً وسياسياً واقتصادياً، حول «الممرات الآمنة» التي أقامها سليماني ورفاقه، الشهداء منهم والأحياء، في طول الإقليم وعرضه، كما حول العالم. وتوسيع هذه الرقعة يبدأ بإخراج قوات الاحتلال الأميركي من الإقليم. هي الحرب الكبرى التي يجب أن تُخاض، بالصورة نفسها التي خيضت بها بعد عام 1982، انطلاقاً من لبنان. فاستقلال هذه البلاد مستحيل من دون مواجهة العدوانية الإمبريالية الأميركية، وأبرز مظاهرها الاحتلال العسكري المباشر.

قاسم سليماني… تحالف المستضعفين بوجه الإمبرياليّة

في اللحظات التي تلت استشهاد اللواء قاسم سليماني، شرعت أجهزة الدعاية الخليجية والذباب الإلكتروني الناشط على وسائل التواصل الرقمي في حملة إعلامية – سياسية تهدف إلى اغتياله معنوياً، استكمالاً لاغتياله جسدياً. فالرجل الذي شارك إلى جانب القادة الآخرين في محور المقاومة في مواجهة الهيمنة الأميركية – الإسرائيلية على المنطقة، وفي تطوير قدرات هذا المحور كمّاً ونوعاً، ما انعكس تحوّلاً تدريجياً ولكن مستمرّاً في موازين القوى لغير مصلحة أعدائه، اتُّهم بالمسؤولية عن الويلات التي حَلّت بملايين السوريين والعراقيين من جرّاء الحرب التي عصفت بالبلدين. السردية المذهبية التي قُدِّمت للتعمية على الطبيعة الفعلية لهذه الحرب المحلّية/ الإقليمية/ الدولية التي شُنّت على البلدين، وتصويرها على أنها صراع تناحري ووجودي بين «السُّنة» و«الشيعة»، وضعت الشهيد سليماني، بحكم موقعه العملي في إدارة المجابهة، على رأس قائمة المتّهمين بما نجم عنها من أهوال بشرية ومادية. الاغتيال المعنوي والسياسي لأحد قادة محور المقاومة، عبر تشويه قناعاته ودوره وإظهاره على أنه يقود حرباً مذهبية ضدّ «السنّة»، لا يقلّ خطورة عن جريمة قتله في خضمّ المعركة المحتدمة في منطقتنا. فالشهيد سليماني، قائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري الإيراني، كان تجسيداً حيّاً على أرض الواقع للثوابت المبدئية التي حكمت وما زالت سياسة الجمهورية الإسلامية تجاه قضايا الإقليم والعالم، وفي مقدّمتها قضية فلسطين، والوحدة الإسلامية، وتحالف الشعوب المستضعفة ضدّ الإمبريالية. وقد اتّضح بشكل جليّ التزام «شهيد القدس»»، كما سمّاه رفاق السلاح في فصائل المقاومة الفلسطينية، بهذه الثوابت خلال محطّات حاسمة من مسيرته الجهادية، وكذلك خلال التطوّرات التي شهدها الإقليم العربي – الإسلامي في العقد الأخير، والتي ما زالت محطّ تأويلات وتحليلات متضاربة.

الانتفاضات الشعبية «صحوة إسلامية»
«في منطقتنا اليوم بات هناك أكثر من إيران. مصر أضحت إيران أحببتم ذلك أو كرهتم. هي ستصبح إيران ثانية رغماً عنكم… جميع الحكومات العربية ستُسقطها شعوبها. أقوى الحكومات وأكثرها ظلماً تمّت الإطاحة بها والبقية ستتبعها. لن تستطيعوا إبقاء أيّ بلد تحت حكم عائلة أو قبيلة بعد الآن. نظام جديد في طور التشكّل في العالم يرتكز أساساً إلى الروحانية والعدل». لَخّص اللواء الشهيد في هذا الخطاب الذي ألقاه في كرمان في 27 آب/ أغسطس 2011 موقف قيادة الجمهورية الإسلامية من الطابع الرئيس للانتفاضات الشعبية التي عصفت بالعالم العربي منذ نهاية 2010، والتي كان المرشد علي خامنئي قد وصفها بـ«الصحوة الإسلامية» في خطبة ألقاها في 4 شباط/ فبراير من السنة نفسها في ذكرى الثورة الإيرانية. بطبيعة الحال، لم تَغِب عن بال القيادة الإيرانية حقيقة أن الزلزال الشعبي الهائل الذي وقَع سيَفتح الباب أمام صراعات داخلية محتدمة حول الخيارات الواجب اعتمادها بعد إزاحة رأس هرم السلطة في بلدين كتونس ومصر مثلاً، وأمام التدخلات الخارجية للحؤول دون القطيعة مع السياسات المتّبعة من قِبَل النخب الحاكمة سابقاً. صراع الخيارات بعد إسقاط رأس هرم السلطة بين التيارات والقوى المتعدّدة المشارِكة في الثورات هو واقع عرفته غالبيتها في التاريخ المعاصر، بما فيها الثورة في إيران.

لقد جاء الدعم الذي وَفّره للمقاومة ترجمة لقناعاته بأن فلسطين هي القضية الكفيلة بجمع شمل الأمّة

وقد كشف السيد حسن نصرالله، في مقابلته الأخيرة مع قناة «الميادين»، أن الشهيد سليماني كان متخوّفاً من إمكانية ركوب الولايات المتحدة موجة الثورات لحرفها عن مسارها، ومنعها من تحقيق أهدافها، وتهديد الأنظمة المعادية لهيمنتها، كما تمّ لاحقاً في سوريا. لكن، وعلى الرغم من إدراكها لهذه المخاطر، فإن القيادة الإيرانية راهنت على أن الأطراف الإسلامية المساهِمة في هذه الثورات، وبينها «الإخوان المسلمون» الذين تربط إيرانَ بقسم وازن من قياداتهم علاقات قديمة ووثيقة، ستكون القوة المركزية في الدفع نحو تحوّلات جذرية سياسية واقتصادية تنسجم مع ثوابتها الأصلية في الدفاع عن الاستقلال وعن قضية فلسطين، ومناهضة الهيمنة الإمبريالية. رأت هذه القيادة في الثورات العربية فرصة تاريخية لتحقيق الوحدة الإسلامية التي دعت إليها الثورة في إيران منذ انتصارها. مصادر كثيرة، قريبة من إيران و/ أو معادية لها، ككتاب «قائد الظلّ» للصحافي الإيراني المعارض أراش عزيزي، تُؤكّد أن المسؤولين في هذا البلد، وبشكل خاص الشهيد سليماني، عملوا بكدّ في تلك الفترة للتوصّل إلى صيغة تنسيق مع القوى الإسلامية العربية. غير أن التحالف مع ايران لم يكن توجُّهاً يحظى بالإجماع داخل قيادات هذه القوى، وقد رأى تيّار معتبَر في صفوفها أن استراتيجية «التمكين» التي ينادي بها، والتي تقدّم أولوية الوصول إلى السلطة على ما عداها، تفترض التوصّل إلى تفاهمات مع الولايات المتحدة والقوى الغربية، ما يتعارض وتعزيز العلاقات مع طهران. التطوّرات التي تلت، الناجمة عن تفاعل عوامل داخلية وخارجية، أدّت إلى إقصاء القوى الإسلامية من السلطة كما تمّ في مصر، أو تحجيم دورها ونفوذها كما جرى في تونس. ومن دون الدخول في تقييمات حول أسباب هذا الأمر، فإن الثابت هو أن القيادة الإيرانية، والشهيد سليماني شخصياً، أَمِلا في أن يكون انتصار الانتفاضات مناسبة للتأسيس لوحدة سياسية بين دول الفضاء العربي – الإسلامي حول قضاياها المشتركة.

أولوية فلسطين في جميع الظروف
أفضى الصراع الذي انفجر في سوريا سنة 2011 إلى انقسام حادّ بين الأحزاب والتنظيمات الإسلامية التي كانت في غالبيتها العظمى، باستثناء تلك السورية، تقف في المعسكر نفسه المؤيّد للمقاومة الفلسطينية واللبنانية، والرافض للهيمنة الأميركية – الإسرائيلية منذ بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي. وقد عَزّز الدعم الكبير والمتعدّد الأوجه من قِبَل إيران و«حزب الله» للمقاومة الفلسطينية، وفي القلب منها «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، من تماسك المعسكر المذكور، وتَجلّى ذلك خلال العدوان على لبنان في صيف 2006 وفي الحروب على غزة في أعوام 2008 – 2009 و2012. غير أن الخلاف الذي تفاقم حول المعركة الدائرة في سوريا، والذي أدّى إلى خروج «حماس» من هذا البلد، أفضى إلى اتّهامات حادّة متبادلة بين مكوّنات المعسكر المذكور. وفي أوج الخلاف، أي في صيف 2014، عندما وقع عدوان صهيوني جديد على غزة، حرص الشهيد سليماني على إعلان وقوفه بقوّة إلى جانب المقاومة الفلسطينية و«كتائب عزّ الدين القسّام» تحديداً، الذراع العسكرية لـ«حماس»، في رسالة وَجّهها إلى قيادتها ومجاهديها. وجاء في الرسالة أن «فلسطين في هذا الزمن هي الحدّ الفاصل بين الحق والباطل وبين الجور والعدالة… هي البركان الإلهي الذي لا يمكن إخماده إلا بدحر الغاصب المحتل. سنستمرّ في نصرة فلسطين حتى تبيت الأرض جهنماً للصهاينة ولن نتوانى للحظة عن الدفاع عن المقاومة ودعمها ودعم الشعب الفلسطيني». ليس سرّاً في مرحلة ما بعد العدوان أنه قام بدور أساسي لرأب الصدع بين «حماس» وإيران، ولتعزيز التحالف بين الطرفين. لقد جاء الدعم النوعي الذي وَفّره لفصائل المقاومة ترجمة لقناعاته المبدئية بأن فلسطين، إضافة إلى كونها قضية حق، هي القضية المركزية الكفيلة بجمع شمل الأمّة التي عمل الأعداء على تقسيمها وتأجيج الفتن في داخلها لتأبيد سيطرتهم عليها.

عاشق فلسطين

«وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ»

كان انتصار الثورة الإسلامية في إيران من أهم الأحداث والمتغيرات التي أسهمت في تحويل منطقتنا العربية المردوعة بجيوشها، إلى منطقة أصبح للمقاومة الفاعلة في قوتها وعنفوانها موضِع قدم راسخ وثابت فيها، مقاومة بانتصاراتها وإنجازاتها بددت أحلام هذا العدو بالسيطرة المطلقة.
وقد أسهم في عملية إحداث التغيير قدوم قائد قوة القدس الشهيد الفذ قاسم سليماني الذي عركته ميادين الحرب الظالمة المفروضة على شعبنا الأَبي المسلم في إيران، والذي صقلتهُ مكائد الحرب ومفاجآتها. فبقدومه وخبرتهِ ومهارته وشجاعته وحضوره الميداني حدث هذا التطور الكبير في أداء المقاومة وقوتها.
نعم هو الحاج قاسم بقدّه وقديده، رجل المقاومة والوحدة والقضية والنصر القادم، رجل إن أنصت إلى حديث كان الأكثر وقاراً وتواضعاً، وإن تكلّم كان الأقوى حجةً وبصيرةً وهيبة. يحترم الرأي ويصغي إليه مستفسراً ومستوضحاً. تتلاشى عنده المساحات. فالجميع بألوانهم وانتماءاتهم وعقائدهم إخوانٌ لهُ. لا يقف عند المشكلة عاجزاً، ولا يعطيها حجماً زائداً. يقترح ويقدّم الحلول. إن اختلفت معهُ في الرأي فلا غضاضة، وإن اتفقت معهُ في الرأي فهي القناعة. يوحّد ويبحث عن القواسم المشتركة، ينظر دوماً بخطواته وتوجهاته وقراراتهِ إلى الأمام، لا يلتفت إلى الخلف نادماً أو متردّداً أو لائماً. هو القائد المؤثر، الابن البار الوفي للمشروع ولدماء أبنائه وذويهم حباً ووفاءً وعرفاناً. هو المدرسة الممتدة من عبق التاريخ بإيمانه ووعيه وثورته. هو امتداد لمدرسة الإمام الخميني العظيم رحمه الله ومن خلفهِ الإمام القائد الخامنئي المؤمن الشجاع، مدرسة العلم والخير والإيمان والشجاعة، والصبر والمبادئ والإرادة.
نعم هو من عباد الله، لله عاش وفي الله استشهد…
إن سُئلنا، من هو الحاج قاسم سليماني؟
قد نستطيع أن نجيب إجابة جزئية عن هذا السؤال، لتظل الإجابة الكاملة والتامة والمنصفة له وبحقهِ متروكة لمستقبل آتٍ بعيداً كان أو قريباً.
كان لفلسطين وقدسها عاشقاً، ولمقاومتها موحداً وأخاً منهم ولهم، مقدماً البرامج ومُسهِماً بنحو كبير في تحويل مقاومتهم من زخم العمل إلى قوتهِ، ومن ارتجاليتهِ واجتهادهِ إلى تخطيطهِ وتنظيمه، ومن أعمال تكتيكية إلى أعمال استراتيجية، ومن الاستثمار المتواضع للإنجازات والانتصارات إلى الاستثمار الكامل، ومن ضعف المؤسسة السياسية والعسكرية إلى قوتها.
قيّم وإخوانه في المقاومة الفلسطينية الحروب على غزة على مدار الوقت من حرب 2008 – 2009، وحرب 2012، وحرب 2014. استخلصوا العِبر، ووضعوا الإصبع على نقاط القوة والضعف فيها.
ووضع قائدنا وشهيدنا البرامج والمعالجات لتصويب الأخطاء، وتأمين النواقص والاحتياجات، ورفع الكفاءة والمهارة القتالية عند المقاومين. لم يترك شيئاً صغيراً كان أو كبيراً من لوازم العمل إلاّ قدّم لهُ التصوّر والحل، مُلزماً إخوانه بالتنفيذ.
ولم يبخل في تقديم ما تحتاج إليه ميادين التصعيدات والحروب، من الطلقة إلى البندقية إلى المدفع إلى مضاد الدروع إلى مضاد الطائرات إلى الصاروخ بكل أنواعه المتاحة.
اهتم بالمقاتل وحاجاته التدريبية وأدق التفاصيل فيها. أجرى العديد من المناورات المتعددة السيناريوات ليحاكي ما يناسب معاركهم هناك.
كان للتصنيع المحلي عندهُ اهتمام كبير، مدقّقاً ومتابعاً وسائلاً، وحريصاً على نقل الخبرات بكل أنواعها المطلوبة، وحريصاً أكثر على نقل كل جديد ومُبدع وقابل للتحقق.
دعم بقوة العمل على البنية التحتية (الأنفاق) على مستوى القطاع. وكان يسبق الجميع في تقديم التسهيلات والإمكانات والنصائح والحث على الإنجاز.
عمل المستحيل هو وإخوانه لتأمين الحاجات المادية المطلوبة والملحّة في زمن الحصار والعقوبات على إيران، وحرص على عدم تأخير إيصال الدعم المالي لإخوانه المقاومين المحاصرين في غزة.
كان الجميع يستشعر أهمية هذا الدعم وهذه البرامج في إحداث التغيير والتأثير الكبير على مجريات الأحداث والتصعيدات، وكل حرب جديدة تلي ما قبلها.
قال يوماً ستضربون تل أبيب، وكان قولهُ لنا في حينه شبه معجزة. تساءلنا حينها أنحن حقيقةً قادرون على ذلك؟ أنحن قادرون على التهديد والتلويح كما هدّد سماحة السيد القائد الكبير حسن نصر الله بضرب ما بعد حيفا، ويقصد «تل أبيب» عام 2006.
وكان ما وعد بهِ الشهيد قد تحقق، وبالفعل ضُربت تل أبيب من غزة بعشرات الصواريخ، وها نحن نهدّد بضرب ما بعد تل أبيب.
فعندما ينطلق لسان المؤمن الصادق صادقاً وواعداً بتقديم الدعم والعون لإخوانه المقاومين يأتي العون والمدد الإلهي مُلبّياً.
بُنيت الهياكل والتشكيلات العسكرية على امتداد قطاع غزة من كل الفصائل، خرج المئات بل الآلاف من المجاهدين لتلقّي التدريب على كل فنون القتال واختصاصاتها، وعاد الجميع بعلمٍ جديد ومهارة قتالية أفضل.
معاناة كبيرة وتضحيات هائلة بذلها الشهيد القائد قاسم سليماني وإخوانه في قطع المسافات الطويلة، وتذليل الصعاب، وأخذ الموافقات من دول بعيدة عن فلسطين لإيصال هذا السلاح المهم والضروري والمُكلف.
وأخيراً وصل السلاح وتسلمه المقاومون وقاتلوا به، وضربت الصواريخ، وحققت الردع، وأذلت قادة هذا الكيان الغاصب ومستوطنيه، وعلى رأسهم رئيس الوزراء الفاسد نتنياهو أمام جمهوره وبين مؤيديه، فأنزلتهُ صاغراً مرعوباً عن منصات الدعاية الانتخابية، ما زاده حقداً ونزعةً للانتقام من قادة المحور.
تطوّر الصاروخ وأصبح أكثر دقةً في الإصابة، وأبعد في المدى، وأكبر في حجم الرأس الحربي ووزنه، وما زال العمل والإبداع جارياً في كل المجالات، المعروف منها وغير المعروف.
نختتم:
إن هذا المحور العظيم الممتد من إيران الإسلام إلى العراق فسوريا فاليمن فلبنان ففلسطين سيتّسع أكثر، وسيتعاظم شأنه، وسيتحقق مراده، فوعد الله بالنصر على بني إسرائيل منجز لا محالة، ودخول البيت المقدّس آتٍ، ودماء شهدائنا الأبطال، قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس وعماد مغنية وفتحي الشقاقي وأحمد ياسين وأبو عمار وأبو علي مصطفى وجهاد جبريل وأبو عطايا وبهاء أبو العطا لن تذهب هدراً، وإنّ إخوانهم وأحباءهم هم من سيوجّهون الضربة القاصمة والحاسمة لهذا العدو، وسيقتلعونه من جذوره.

* «أبو محمد أكرم» –
عضو المكتب السياسي لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين

عام على شهادة سليماني: تحديات مشروع المقاومة

يحدد إندور روبرتس صاحب كتاب «القيادة في الحرب: دروس أساسية من أولئك الذين صنعوا التاريخ» عشرة دروس يتصف بها القادة العظماء: الطاقة على العمل، والقدرة على التخطيط والتكيّف، وذاكرة عظيمة، والحظ، وفهم الوجدان العام، وأعصاب متماسكة، وإصرار ملهم، والتعاطف، والوعي السياسي، وأخيراً اللامنطق في التوقيت المناسب. يمكن أن تنطبق هذه الصفات بسهولة على قاسم سليماني، بل كأن الكتاب عنه. لكن الصفة الأهم ربما في حالة الشهيد سليماني هي الأخيرة، أي القدرة على تجاوز المنطق في الوقت الصحيح. بمعنى أن على القائد امتلاك خيال سياسي خصب فلا تكبّله الوقائع الماثلة بين يديه. وهكذا سيرى الإمكانات والظروف المنطوية في كنف الأحداث ويستشعر روح الاتجاهات المستجدة، فيصير قادراً على تخيّل مستقبل يقع خارج تصوّر العموم، ثم يضع برنامج عمل ليحقق ذلك المستقبل بعد أن يدمجه في أهدافه الكبرى. إن تقدّم التاريخ يعتمد على هؤلاء الأشخاص تحديداً.
استلم الشهيد سليماني مسؤولية قوة القدس في العام 1998 حين كان النظام الإقليمي الأميركي يبدو صلباً ومتماسكاً. لكن خلال 22 عاماً، حتى تاريخ شهادته، تمكّن مشروع المقاومة من أن يجعل الحديث عن «شرق أوسط ما بعد أميركا» مألوفاً حتى في واشنطن نفسها، وأن تمتلىء صفحات التقديرات الأمنية الإسرائيلية بالحديث عن المخاطر الاستراتيجية، وأحياناً الوجودية، التي يمثلها مشروع المقاومة.
في المقابل دأبت كل من واشنطن وتل أبيب وملحقاتهما في الإقليم على محاولة الاستجابة والتكيّف مع التحديات والتهديدات التي فرضها مشروع المقاومة. هنا تحقق القوتان بعض النجاحات بالاستفادة من موارد القوة المادية الهائلة وطبيعة النظام الدولي وفعالية المؤسسات الأمنية والسياسية والتقدّم التكنولوجي النوعي والمتسارع وكذلك تداعيات الحروب الأهلية والانقسامات المحتدمة على مدى المنطقة. فالصراع هو تفاعل إستراتيجي ديناميكي، وهو في عالم اليوم يشبه لعبة شطرنج تدور بشكل متواز على عدة رقع متجاورة ومتصلة على شكل شبكة. وعليه، من طبيعة الأمور أن يكون مشروع المقاومة بدوره أمام تحديات مستمرة ما دام الصراع محتدما.ً واليوم بعد عام كامل على شهادة سليماني ورفيقه أبو مهدي المهندس، يمكن إيجاز التحديات الماثلة أمام مشروع المقاومة في المنطقة ضمن ثلاث فئات: الردع، الاحتواء، والبناء.

أولاً: في مجال الردع
1 – ضبط الانكشاف الأمني: يعاني مشروع المقاومة من بروز فجوة في الردع الأمني لصالح العدو الإسرائيلي الذي تزداد قدرته على الاختراق الأمني والعمل من دون بصمة داخل ميادين مشروع المقاومة بالتوازي مع صلابة حصانته الأمنية. هذا التقدّم يعكس في جزء منه نجاح المقاومة على مستوى الردع العسكري، ما دفع قادة العدو إلى تخصيص موارد هائلة لأدوات «المنطقة الرمادية». هذه القفزة الأمنية الإسرائيلية لها ظروفها المرتبطة بالتعاون الاستخباري العالمي مع كيان العدو وقدرة عملائه على التحرك بحريّة حول العالم والخبرة المتراكمة للمؤسسة الأمنية وانكشاف مجتمعات المنطقة للتجنيد البشري لأسباب مرتبطة بحروبها الداخلية وتداعياتها. إلا أنه يبدو أن عامل التكنولوجيا تحديداً قد بدأ يترك أثراً جلياً. فلا يُخفى أن كيان العدو من أكثر القوى تقدماً في مجال التكنولوجيا والأمن السيبراني وتطبيقات الذكاء الصناعي، وهذا كله يتم دمجه في المنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية. فالأقمار الاصطناعية التجسسية الإسرائيلية تغطي بكفاءة مساحات واسعة من المنطقة، وكذلك أدوات التجسس الرقمي والالكتروني ما يمنح استخبارات العدو كميات هائلة من الداتا الدقيقة مع برمجيات شديدة التطور قادرة على معالجتها في وقت محدود، وتقديم خلاصات تتيح للعدو فك جملة من الأسرار والألغاز والأحاجي.
يوجب هذا الواقع على مشروع المقاومة تخصيص مزيد من الموارد المتاحة للمجال التكنولوجي لتوظيفه في الجهود الأمنية وتطوير آليات عمل مضادة، دفاعية وهجومية، متكيفة مع التقنيات الإسرائيلية المستجدة وترميم جزء من الردع الأمني بالردع العسكري كما يفعل حزب الله.
2 – حفظ الردع العسكري: يواصل مشروع المقاومة نجاحه في تحقيق ردع عسكري متقدّم ضد أبرز جيوش العالم، أي الجيشين الأميركي والإسرائيلي. تتفاوت متانة هذا الردع بين ساحة وأخرى، ولكنه متماسك في العموم. إلا إن جيش العدو الإسرائيلي تحديداً يُدخل تحسينات هجومية ودفاعية ملحوظة على منظوماته وهذا ما يوجب على قوى المقاومة مواصلة تعزيز عمليات بناء القوة وتحديثها. هجومياً عبر تطوير مشاريع الصواريخ الدقيقة كماً ونوعاً وفي مدى انتشارها، وكذلك برامج الطائرات المسيّرة وأدوات الحرب السايبرانية. ودفاعياً الاهتمام بكل ما من شأنه رفع الكلفة البشرية لأية مناورة هجومية للعدو (مثل الوحدات الخاصة، والتحصينات والمنشآت، ومنظومات التحكم والسيطرة، والصواريخ الموجّهة في البر والبحر) وتقليص تأثيرات التفوّق الجوي الإسرائيلي (منظومات للدفاع الجوي، وعمليات التضليل الأمني والدفاع السلبي). بالمجمل ينبغي تطوير أساليب القتال وتكتيكاته بما يتناسب مع تحوّل الجيش الإسرائيلي إلى جيش الذكاء الصناعي.

ثانياً: الاحتواء
3 – تعطيل نتائج مسار التطبيع. وأبرز هذه النتائج محاولة بناء شبكات إقليمية تعزل مشروع المقاومة، وتعزيز هامش المناورة الإسرائيلية في المنطقة، وإنشاء نواة لحلف إقليمي، وتطويع الوعي العربي بما يكرس تفوّق المشروع الصهيوني وانتفاء جدوى المقاومة. وهنا يكون مشروع المقاومة أمام استحقاقات بناء شبكات تعاون إقليمي موازية (لا سيما في المجالات التي تنعكس على الحياة اليومية لعموم الناس)، ودمج الدول المطبّعة ضمن معادلات الردع العسكرية والأمنية (هنا يصبح لليمن أهمية مضاعفة ضمن مشروع المقاومة)، وتطوير الاتصال الشعبي لتقييد مفاعيل التطبيع الرسمي، ودعم مبادرات المقاطعة ونزع المشروعية عن كيان العدو. وكذلك حماية ثقة شرائح أساسية من مجتمعات وشعوب المنطقة بجدوى مشروع المقاومة وضرورته وقدرته على محاكاة الأسئلة الملحّة في الوجدان العام ولا سيما لدى الشباب والنخبة.
4 – الالتفاف على العقوبات الأميركية. ستواصل واشنطن التركيز على استهداف خصومها في محور المقاومة بسلاح العقوبات المالية والحصار الاقتصادي نظراً لكلفته المتدنية وعوائده الملحوظة. أصبحت العقوبات جزءاً من طبيعة النظام الدولي الحالي، ويتيح تقدّم الاستخبارات المالية جعل العقوبات أكثر دقة لتعمل كسلاح موجّه يصيب قطاعات حساسة بذاتها. هنا تجد قوى المقاومة نفسها بحاجة لتقليص الاعتماد على الشبكات الرسمية للنظام المالي الدولي والتسلل إلى الشبكات غير الرسمية وبناء شبكات موازية مع قوى دولية وإقليمية متضررة من العقوبات والانضمام إلى سلاسل توريد معها. وفي الداخل يُفترض تطوير قطاعات التكنولوجيا بشكل أساسي، والسعي نحو الاكتفاء الذاتي في السلع الاستراتيجية أو تأمينها من مصادر مستدامة، وبطبيعة الحال أن تضمن قوى المقاومة نظماً اجتماعية تؤمن شروط الأمان الاجتماعي في الصحة والتعليم والسكن بما يعزز قدرة صمود الشرائح المهمشة.

مشروع المقاومة أمام استحقاقات بناء شبكات تعاون إقليمي موازية لمواجهة مشروع التطبيع لا سيما في المجالات التي تنعكس على الحياة اليومية لعموم الناس

5- منع صعود جماعات العنف التكفيري مجدداً ولا سيما داعش. تحوّل تنظيم داعش إلى حرب العصابات خلال العامين الأخيرين وهو يستفيد من المناطق الهشة المترامية جغرافياً والمأزومة ديموغرافياً بين سوريا والعراق وكذلك من التوظيف الأميركي المباشر وغير المباشر له، لتنشيط نفوذه وتكثيف ضرباته. يستفيد الأميركيون من هذا التنشيط، إضافة إلى استنزاف قوى المقاومة وحلفائها في سوريا والعراق، لشرعنة بقاء القوات الأميركية في كلا البلدين وربما زيادة عديدها عند الضرورة وكذلك ليحصل البنتاغون على موارد مستدامة تحت عناوين دعم الحلفاء المحليين (مثل قسد) و«ضمان استقرار المجتمعات المحلية». ليس من حل جذري قريب لمسألة داعش ولذا المطلوب استراتيجية بعيدة الأمد للتعامل مع وجودها وفق أولويات ميدانية وسياسية. ففي مناطق محددة ينبغي القضاء على مجموعات داعش، واحتواؤها في مناطق ثانية واستنزافها في أخرى، إلى حين توافر شروط إنهاء تهديدها.

ثالثا: البناء
6 – صيانة المشروعية الداخلية. تتيح سطوة التكنولوجيا وفجوة الموارد لمنظومة الهيمنة الأميركية أن تخوض حروب معلومات واسعة واستهدافاً ممنهجاً لعقول وقلوب المواطنين في مجتمعات الفواعل المعادية وذلك بفعالية عالية وكلفة محدودة، عدا عن البرامج الموجّهة للنخب خصوصاً. يتزامن ذلك مع ميل المجتمعات المعاصرة إلى رفع توقعاتها حول الرفاهية ومسؤولية السلطات السياسية عن ذلك مع القدرة على ممارسة النقد والاحتجاج. تخوض أميركا وحلفاؤها معركة شرسة لاقناع الرأي العام أن قوى المقاومة، أنظمة وأحزاباً، تتحمل مسؤولية تدهور الأحوال الاقتصادية والاجتماعية بسبب الفساد وسوء الإدارة والانغماس في معارك إيديولوجية «زائفة»، وكذلك أنها تمارس السياسة بالاقصاء وحكم القلة والسيطرة والاكراه. وتصبح هذه الحملات أشد تأثيراً بمقدار ما يشعر أبناء تلك المجتمعات بالأزمات في حياتهم اليومية ما يتيح خلق انقسامات تهدد استقرار القوى المعادية للمشروع الأميركي وشعبيتها.
لا تُبنى تلك المزاعم الأميركية على مجرد أكاذيب بل تستند أحياناً إلى وقائع مجتزأة أو محرّفة. إن قوى المقاومة معنية بالمواجهة هنا على مستويين: المستوى المعرفي/الخطابي بكشف ارتباط أزمات دول المنطقة ومجتمعاتها بطبيعة النظام الدولي النيوليبرالي وآليات الهيمنة المنطوية داخله وكيف يجري افقارها وامتصاص فوائض القيمة منها وعرقلة نهوضها عبر سياسات ممنهجة من الولايات المتحدة. وانطلاقاً من ذلك إبراز العلاقة المباشرة بين المواجهة العسكرية والسياسة مع المشروع الأميركي ونوعية الحياة اليومية لشعوب المنطقة. وعلى المستوى العملي/السياسوي عبر انشاء مؤسسات حديثة خاضعة للمحاسبة والشفافية مقرونة بهوامش من العمل السياسي والحريات والمشاركة الشعبية تسمح بقيام عمليات كفؤة لاقرار سياسات اقتصادية واجتماعية وقانونية تعزز المصالح العامة من دون التنكر لبعض ضرورات الصراع لكن وفق حاجات الحد الأدنى.
7- تطوير التحالفات والشراكات: مع مواصلة تفكك النظام الإقليمي القديم للمنطقة تبرز أدوار لقوى دولية جديدة في المنطقة وتحدث انقسامات بين قوى إقليمية لطالما كانت ضمن المحور الواحد وتصعد حركات اجتماعية معاصرة. هنا يواجه مشروع المقاومة تحدي الاستفادة من هذه التحولات بشكل سريع وبناء مصالح مشتركة مع هذه القوى ولو في مجالات محددة حيث يبدو أن معظم هذه القوى الدولية والإقليمية والمحلية لا يرغب أن يخوض في سياسة المحاور. إن قوة مشروع المقاومة ثم قدرته على إنشاء وحماية مصالح ذات مزايا تنافسية يرغب الآخرون بالانتفاع منها هي الضمانة لجذب هولاء الشركاء المحتملين. إن هذه الشراكات تستوجب الخوض في مساومات لتقاسم المنافع والأعباء ولبناء الثقة على المدى القريب ثم دمج الشركاء المحتملين والتكامل معهم ضمن شبكات مختلفة (الطاقة والتكنولوجيا والتجارة والنقل والمعرفة). والتحدي هنا أن منافسي مشروع المقاومة في المنطقة لديهم خططهم أيضاً في هذا المجال ولديهم أفضلية الموارد والمرونة والسرعة وخاصة بعد انطلاق قطار التطبيع.
8- انجاز تسويات سياسية/اجتماعية. مع الخمود النسبي للحروب الأهلية والانقسامات الداخلية الحادة بعد عقد على بدء الانتفاضات العربية عام 2011، تجد قوى المقاومة نفسها أمام تحدي التعامل مع مفاعيل تلك الأحداث عبر تسويات سياسية موضعية أو شاملة ومراجعات مشتركة مع بعض قوى الإسلام السياسي والتيارات القومية التي تشترك جميعها في كونها مأزومة ويلزمها البحث عن مسار مختلف. لا بد من تنظيم الخلاف مع ما أمكن من الحركات الاجتماعية وإدارته ثم الخروج منه بحسب السياقات الداخلية والاقليمية لكل حالة. كما أن قوى المقاومة مضطرة للتعامل مع ظاهرة الحراكات الشعبية المستجدة التي يسعى الأميركيون إلى تحويلها إلى ثورات ملونة في المجتمعات المعادية. إن هذه الظاهرة تنطوي على أبعاد حديثة تعكس أزمة النموذج النيوليبرالي والاهتمام المتزايد بالمستوى المحلي وقضايا العدالة الاجتماعية والتباين في توزيع المداخيل والثروات ومعاداة السلطة بما تمثل تحالفاً مع رأس المال بما يؤسس لحكم «الأوليغارشية». وتتداخل هذه الظاهرة في بلادنا مع منافسات القوى الدولية والإقليمية والانقسامات الهوياتية بما يزيدها إلتباساً. على مشروع المقاومة استعادة مفهوم العدالة الاجتماعية وجعله ركناً في مشاريعه الداخلية ومعياراً للفرز في التحالفات والخصومات. إن القضية الاجتماعية عابرة للانقسامات الهوياتية التي تُفتعل بوجه مشروع المقاومة، وإن حماية إيمان الشرائح المهمشة بقضية المقاومة ضروري وحيوي.
9- التشبيك البيني. إن مشروع المقاومة أمام تحدي «الجغرافيا الوظيفية» الذي لا يقل أهمية في عالم اليوم عن الجغرافيا السياسية. لا غنى عن إقامة شبكات عابرة للحدود بين الدول حيث لقوى المقاومة حضور نافذ. إن إيديولوجيا المقاومة ما فوق الوطنية يجب أن تترافق مع بنى مادية عابرة للحدود تعزز من الروابط المصلحية المرتبطة بحياة شعوب هذه الدول ونموها ورفاهها. يمكن الانطلاق من مشروع واحد واختباره ثم البناء على نتائجه. مع إدراك الحاجات التمويلية الكبيرة لهكذا مشروعات وما ستواجهه من مقاومة ولكن المستفيدين المحتملين كثر أيضاً بما في ذلك قوى دولية ذات مصلحة. يحق لنا مثلاً أن نطمح بخط سكة حديد عصرية يصل من طهران إلى بيروت ينقل البضائع والمعدات والسياح والطلاب والخبرات وينشّط الاستثمارات ومتشابك مع خطوط أخرى تصل نحو تركيا والعمق الاسيوي. مع انطلاق قطار التطبيع سيشتد الصراع على بناء شبكات التكامل الاقتصادي في المنطقة، شبكات تجذب لاعبين وتهمّش آخرين.

خاتمة
مع فداحة الخسارة إلا أن الشهيد سليماني رحل بعد أن أنجز القسم الأصعب من المهمة، أي أن يحوّل المستحيل إلى ممكن، فجعل ما بدا قبل عقودٍ لا منطقياً وجنوناً يظهر على أنه عين المنطق والضرورة. يشير روبرتس إلى أن القائد العظيم قادر على جعل الجنود والمدنيين يؤمنون أنهم جزء من هدف أكثر سمواً من وجودهم حتى، وأن يستشعروا بروح القائد مغروسة فيهم. لم يعد سليماني شخصاً بل أسطورة ورواية، وهي أمور قد لا يحتاجها كثيراً الأقوى مادياً لكنها لا غنى عنها للذين رأسمالهم الأساس في الصراع هو إيمانهم بقضيتهم وأرواحهم الحرّة وإرادتهم الصلبة على القتال. قتلت أميركا قاسم سليماني وهذا أمر متوقع بعد 40 عاماً من حربه المفتوحة ضد إمبراطوريتها، لكنها في اللحظة عينها توّجته قديساً في حكايات النضال العالمي ضد الاستعمار والهيمنة. مضى الشهيد سليماني لكنه «ما زال حياً» كما ورد في تقدير إسرائيلي حديث. فقادة العدو تحت وطأة كابوس ما يعتبرونه الخطة الكبرى لسليماني وإرثه الأكثر رعباً، ألا وهي زرع محيط كيانهم من لبنان وفلسطين وسوريا وصولاً إلى العراق واليمن حتى إيران بعشرات الالاف من الصواريخ الدقيقة من مديات مختلفة. هذا «اللا منطق» السليماني جعل لنا سهماً في صناعة مستقبل مختلف للمنطقة.

«لكم الساعة ولنا الزمن»

هل يُمكن إضافة شيء إلى ما قاله كل من شارك مَسيرة الحاج قاسم سليماني وأبي مهدي المهندس، بدءاً بسيد المقاومة؟

رأيت وجهيهما، للمرة الأولى، في مشهد مُصوّر على الخطوط الأمامية في مواجهة «داعش» في العراق. أعاد المشهد إلى ذاكرتي، مع حفظ المقاييس والشروط الظرفية التاريخية طبعاً، قراءات عن المواجهات التي دارت بين القوات السوفياتية التي دافعت عن موسكو في وجه الغزو النازي في الأشهر الحاسمة، نهاية 1941، حين كانت قوات «الجيش الأحمر» تعيد تنظيم صفوفها وتحشدُ قواها لتنهي المعركة بانتصار ساحق على الجيوش الغازية. كما أعاد إلى ذاكرتي شخصيتين بارزتين في هذه المعركة هما الجنرال إيفان بانفيلوف والعقيد باورجان موميش أولي اللذان قادا على الجبهة الأمامية معارك المواجهة المباشرة مع العدو بقدرات بشرية وعتاد أقل بما لا يقاس مما لدى العدو.
تداخلت صور الرجال الأربعة في ذهني وتخيلتهم يخوضون معركة مشتركة. واجه العقيد باورجان، بقوة لا تتعدّى 800 ضابط وجندي، لواءً نازياً من 12 ألف عنصر من القوات الألمانية المدرّعة، ونجح في صدّ الهجمات المتتالية على «درب فولوكولمك»، أحد أهم مفاتيح الدفاع عن موسكو، لثلاثة أيام كاملة، عندما روى لاحقاً تفاصيل المعركة لم يكن له كلام في الفنون العسكرية، بل في إدارة الروح لانتصار الحياة. قال: «إذا أرَدْت أن تبقى على قيد الحياة وتنتصر، فعليك أن تواجه من أتى إليك لقتلك. الوطن هو أنت، هو نحن، رفاقك، هو أسرتك، الوطن هو أمّهاتنا، هو زوجاتنا، هو أولادنا (…). وأنا قائدكم أريد أن أحقق إرادة زوجاتنا وأمهاتنا، إرادة شعبنا، أريد أن أقودكم إلى المعركة لا من أجل أن تموتوا بل لتحيوا وتبقوا على قيد الحياة».
أتى العقيد باورجان كما الجنرال بانفيلوف من قلب كازخستان للدفاع عن أرض الوطن على جبهة موسكو، وله نُصُبُ تذكارية في بلده الأم وفي روسيا.
مجدداً عادت الصورة تتداخل في عينَيَّ عندما سمعت ابنة الحاج قاسم تروي، بصفاء وقوة ويقين وبكلامها المؤثر، الحوافز الأخلاقية التي كانت تدفع بوالدها إلى التواجد في جميع الجبهات إلى جانب المقاومين لمواجهة عدو واحد بأوجه وأقنعة متغيّرة في العراق وسوريا ولبنان. لفتتني، على مقلب آخر، أنماط قراءة الأحداث، وتحديداً في الإعلام السائد الغربي الأطلسي – ومُشتقاته الذيلية – بصفته مرآة لما يَدُور ويُخطط له في غرف إدارة الحروب من البنتاغون إلى الحلف الأطلسي.
قراءات مبنية أساساً على الشخصنة، والتركيز على سرديات ترسم نظرتها إلى الشعوب والدول وكأنها هَرَمٌ مقلوب على أرسه يُختزَلُ بشخص الرئيس على غرار ما رافق الحرب على سورية. هذه الرؤية هي لازمة تاريخية للقراءات الاستعمارية الأوروبية ووريثتها الأميركية لواقع شعوب العالم. في هذه القراءات لا وجود للأوطان ولا للمؤسسات ولا للثقافة ولا للتاريخ. أما التراث فهو خاضع لنظرة جامدة متحجّرة شبه ميتة لا تصلح سوى للنهب المنظم أكان رسمياً أو خاصاً.

من يسير على درب السيادة الفعلية وتملك الذات تصبح عملية إلغائه «واجباً حضارياً» ولو بالاغتيال

فيما المسافة بين الشخصنة والشيطنة والأبلسة قصيرة جداً، ومنها إلى الجريمة خطوة لم يتوانَ البعض عن اجتيازها. هل من الضروري، هنا، ذكر قافلة القادة الشهداء ووقاحة العدو الإسرائيلي في مناقشة الاغتيالات وجدواها على الشاشات؟ هل ننسى كلام وزير الخارجية الفرنسي السابق لوران فابيوس بحق الرئيس الأسد؟ تباهى دونالد ترامب رسمياً بالمسؤولية عن الاغتيال. لكن هل ننسى أسلافه؟ هل ننسى الإرث الثقيل الذي يحمله الغرب الأطلسي؟ لنستذكر فقط الاغتيالات التي رافقت خروج الشعوب من حقبة الاستعمار المباشر. هل ننسى لومومبا والمهدي بن بركة وتوما صنقرة وغيفارا وأمر اغتيال سلفادور الليندي الموقع من كيسنجر؟
لهذا النهج في الرؤية جذور عميقة تمتد إلى أصول الفكر الاستعماري وهيكله الإيديولوجي المبني على نظرة دونية لشعوب الكون، نَمَتْ ورافقت صعود الاستعمار في أوروبا، وتحديداً في بريطانيا وفرنسا منذ أواخر القرن الثامن عشر، والتي أنْبَتتْ فكرة «التفوّق الحضاري» على باقي العالم. ورثت الأمبراطورية الأميركية الفكرة تحت اسم «مانيفست دستيني» أي «القدر الإلهي» المحتوم المكتوب للولايات المتحدة في نشر «الحضارة في أرجاء المعمورة».
لهذه الرؤية لازمة مباشرة تنفي قدرة الشعوب الأخرى على تملُّك المعرفة بقدراتها الذاتية، ليصبح «التقدم الحضاري» تماهياً وتقليداً لمقاييس الغرب الاستعماري الأطلسي. أما في من يسير على درب السيادة الفعلية وتملك الذات فتصبح عملية إلغائه «واجباً حضارياً» ولو بالاغتيال، أما تنمية المعارف العلمية خارج الأطر المرسومة من هؤلاء والتي أدّت إلى لجم نسبي لدينامية «هجرة الأدمغة»، فهي الجريمة الكبرى من نظر الدول الأطلسية.
أريد الاستشهاد هنا بمثلين لافتين: الأول ما ورد على لسان اللواء مارتين دمبساي قائد الأركان المشتركة الأميركي أثناء المفاوضات مع طهران، حين قال: «ليست المشكلة في أن تمتلك إيران السلاح النووي، المشكلة أنها تمتلك المعرفة». أي أن تملكها الذاتي للمعرفة يهدد الركيزة الأساسية للفكر الاستعماري وهي التملك الحصري للعلم والمعرفة.
أما المثل الثاني البالغ الرمزية فهو حادثة عايشتها خلال مشاركتي في مؤتمر دولي في طهران. اكتشفت يومها أن المختبرات الإيرانية نجحت في ابتكار نوع خاص من الإسمنت تفوق قدرته في الصلابة والليونة في آن أربعة أضعاف إسمنت «دوكتال» الذي تُنتجه شركة «لافارج» الفرنسيه والذي يُعدُّ الأفضل في العالم.
كان الهدف مواجهة خطر الزلزال على الأبنية في طهران الواقعة على حَدّ فالق خطير في جبال البرز. ميزة الإسمنت هذا أنه قادر على مضاعفة تماسك الأبنية في حال وقوع زلزال. وشاءَت الصدف أن أقرأ، لدى عودتي، مقالاً في أسبوعية «ايكونوميست» البريطانية بعنوان «يا لها من كارثة»! يتطرق كاتبه إلى الابتكار الصناعي المذكور، ويضيف: «تصوروا أننا قمنا بقصف منشأة إيرانية مُحصّنة بقنبلة «جي بي 58» (الخارقة للتحصينات). وبعد تبدد الغبار وانقشاع الرؤية ها هي المنشأة ما زالت قائمة موجودة. يا لها من كارثة حقاً».
أعتقد أن الحاج قاسم سليماني ومعه أبو مهدي المهندس تخطيا الآن الزمان والمكان. أصبحا ملك الحقبة التاريخية الراهنة وعنوانها التحرر الوطني وبناء المستقبل.
ديناميتان تحكمان إقليمنا ودُوَله منذ القرن التاسع عشر: دينامية الشرذمة والتقسيم والتفتيت والتقوقع على الذات، لها منظّروها أمثال أشهرهم برنارد لويس وقواها الضارية في الغرب الأطلسي وخدمها الذين يرتضون أكل الفتات.
أما الدينامية الثانية فهي دينامية التكامل والتشابك والتشبيك الإقليمي الذي عمل الحاج قاسم على بناء أسسها في عمارتها، مرسياً نهج انفتاح الإقليم على نفسه مؤسساً لحقبة من التاريخ المشرقي والإقليمي رسمت فيه التحالفات بدَمِ الشهادة وجهة المستقبل. وجهة رسمتها أيضاً الانتصارات في لبنان، منهية زمن النكبات ومرسية زمن المقاومة والبناء.
ولمن ربما يخونه اليقين، أستذكر هنا محطتين من تاريخنا المعاصر:
سئل الرئيس الكوبي الراحل فيديل كاسترو مطلع السبعينيات من القرن المنصرم عمن سينتصر في حرب فيتنام، فأجاب: «أعطوني على مَرّ التاريخ حالة واحدة شهدت انتصار مجموعة تقنيات على حضارة».
وفي منتصف التسعينيات من القرن الماضي، علّق وزير خارجية الصين على تذمُّر نظيره الهولندي بسبب تمديد فترة لقاء عمل جمعهما بالقول: «أتعرف الفارق بيننا أيها الزميل؟ أنتم لديكم الساعة، ونحن لدينا الزمن».

هل حقّق ترامب مبتغاه؟

لا شكّ في أن استشهاد قائد «قوّة القدس» في «الحرس الثوري» الإيراني، الحاج قاسم سليماني، مَثّل حدثاً سياسيّاً وأمنياً مهمّاً في عام 2020، إن لم نقل الأهمّ. وعلى قدر أهمّية شخصية الشهيد، وفداحة الجريمة التي ارتكبتها الولايات المتحدة الأميركية، كانت التداعيات ضخمة على مستوى الخيارات السياسية والاستراتيجية في كلا البلدين، لا بل في المنطقة بمجملها. فقد برزت العديد من المتغيّرات في ما يتّصل بهذه الخيارات، انطلاقاً من تموضع الجمهورية الإسلامية وحركتها، وتغيّر السياسة الأميركية، وصولاً إلى تفاعل محور المقاومة. ومن هنا، لا بدّ من التطرّق إلى أسئلة ثلاثة هي: إلى أين وصلت الاستراتيجية الأميركية تجاه إيران؟ ماذا تَغيّر على مستوى «الحرس الثوري»؟ هل تراجعت إيران وهل حقّق ترامب مبتغاه؟

في الردّ على السؤال الأول، تكفي الإشارة إلى أنه على الرغم من حدّة أدوات الضغط الأميركية على إيران ودول المنطقة، إلّا أنها عملياً لم تُحقّق أهدافها. وبحسب ألما كيشافارز، الباحثة في معهد السياسة والاستراتيجيا في جامعة كارنيغي ميلون، فإن «سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران وصلت إلى طريق مسدود». كذلك، بناءً على قراءات متعدّدة، فإن استراتيجية الإدارة الأميركية القائمة على «الضغوط القصوى» لم تنجح. وربّما، من هذا المنطلق، نشر قسم الأبحاث في الكونغرس الأميركي تقريراً أعدّه كل من كينيث كاتزمان المتخصّص في شؤون الشرق الأوسط، وكاثلين جي ماكينيس المتخصّصة في الأمن الدولي، وكلايتون توماس محلّل شؤون الشرق الأوسط. وفي التقرير الصادر في الثامن من أيار/ مايو 2020 بعنوان «الصراع بين الولايات المتحدة وإيران وانعكاساته على سياسة الولايات المتحدة»، استعرض الباحثون جملة من العناصر المرتبطة بهذا الصراع الذي بلغ ذروة غير مسبوقة في أعقاب اغتيال سليماني ورفاقه بداية العام الماضي، لا يُستبعد أن تقود إلى صراع شامل.

رفضت إيران فكرة التفاوض المباشر والتسليم بالوجود العسكري الأميركي في المنطقة

ومن هنا، يأتي الجواب على السؤال الثاني: ماذا تَغيّر على مستوى «الحرس الثوري»؟ يمكن القول إن الولايات المتحدة لم تستطع استغلال عملية اغتيال سليماني ورفاقه لفرض سياساتها في المنطقة، والتي يبدو أيضاً أنها لم تحقّق النتائج المطلوبة. فـ«الحرس»، وعلى رغم فقدانه لعنصر مؤسِّس وفاعل، إلّا أنه اليوم، وبشهادة الأميركي، يزداد قوّة وصلابة وقدرات عملية وعسكرية وتسليحية، ارتباطاً بما باتت تمتلكه إيران من قدرات ردع صاروخية، فضلاً عمّا لديها من طموحات كبيرة في مجال التكنولوجيا العسكرية، والقدرة على تصنيع الصواريخ العابرة للقارّات. إضافة إلى ما تَقدّم، تمكّنت الجمهورية الإسلامية من زيادة قدرة الصواريخ البالستية المتوسّطة المدى، وتوسيع قدرات صواريخ «كروز»، وفق ما أثبتته الضربة الصاروخية الإيرانية على القواعد العسكرية الأميركية في العراق.
لذا، وباختصار، لم تتحقّق التوقّعات الأميركية؛ فلم تتراجع إيران على المستوى السياسي، من خلال القبول بفكرة التفاوض المباشر والتسليم بالوجود العسكري الأميركي في المنطقة. كما أنها شكّلت ندّاً عسكرياً للقوّات الأميركية، حيث صعّد سلاح البحرية التابع لـ«الحرس الثوري» مراقبته لتحرّك الناقلات في الخليج. ولم تكتفِ إيران بهذا، بل عملت على خرق الحصار والعقوبات الأميركية المُعلَنة وسياسة «الضغوط القصوى» التي انتهجتها إدارة ترامب، وذلك من خلال تفعيل سياستها الدبلوماسية وعلاقاتها مع الحلفاء في المنطقة، وهو ما تجلّى في كسر الحصار عن فنزويلا، وإرسال ناقلات نفط عبر بحر الكاريبي، معقل التحكّم الأميركي.
بشكل مستمر، يناقش صانعو السياسة في واشنطن قضية احتواء إيران؛ وبحسب الباحث المتخصّص في شؤون أفريقيا والشرق الأوسط، ستيفن كوك، يبدو الخيار الأكثر واقعية للولايات المتحدة هو اتباع هذه السياسة التي قادت واشنطن للانتصار على الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة. صحيح أن ترامب جَمع بين الخطاب المتشدّد وعروض التفاوض مع طهران، في موازاة اتباعه سياسة «الضغط الأقصى»، واعتباره اغتيال سليماني وسيلة لتحقيق ذلك، إلّا أنه لم يكن يقيّم بشكل صحيح توجّهات الجمهورية الإسلامية وخياراتها، ولا سياساتها الاستراتيجية. وعليه، بدأ الكثير من المحلّلين الأميركيين، منذ بعض الوقت، يتحدّثون عن حاجة الولايات المتحدة إلى استراتيجية كبرى، تُحدِّد أولويات واشنطن ومصالحها.

من فاطمة عماد مغنية إلى قاسم سليماني: رجل من خارج هذا الزمان

سألتني ابنتك زينب بعد أشهرٍ من استشهادك أيُ فراقٍ كان الأصعب علي؟ احترت حينها قليلاً أكان عماد أبي، أم جهاد أخي، أم خالي مصطفى، أم أنت.

الحاج قاسم، قلتُ. استغربَت وسألتني عن السبب. السبب يا عمو هو أنك لم تكن والدي الذي أنجبني ولم تكن مضطراً إلى أن تكون بمثابة أب لولدين وبنت، بكل ما تحمله كلمة الأبوة من معاني ومسؤوليات. ما شهدته وما عايشته أنا مع المقاومين الذين عرفتهم أن ما لا يملكونه هو الوقت. لا وقت لدى الأبطال حتى ليمارسوا أبوّتهم. لقد قضيت شبابي في حالة انتظار. أنتظر أبي ليرجع دائماً إما من جلسة إما أنتظر انتهاء حرب أو تأهب أو أنتظر وقتاً لم يكن يوماً ملكاً له أو لي، بل كان ملكاً لأمة.
لكن أنت يا حاج قاسم عدت إلي، سرقت وقتاً لطيفاً مقدساً من الخط الزمني للأبطال، وهبتني ما لم يستطع عماد أو لم يسعفه عمره أن يهبني إياه من دلال وبنوّة وأبوّة. كل ما لم أطلبه من عماد طلبته منك، وكل ما لم يتسنّ لي أن أقوله لعماد قلته لك؛ طلبات الأبناء البسيطة، والسخيفة غالباً.
لقد كنت موجوداً دائماً عندما توقعتك وعندما لم أتوقعك. من الطبيعي منك، أنت القائد قاسم سليماني، أن تزور بيتنا في ذكرى عماد وتسأل عن أحوالنا. لكن ليس من الطبيعي أن تزور بيتنا كلما أتيت إلى لبنان، ولا من المتوقع أن تقصدنا في المستشفى حين نمرض، وبالطبع ليس من المتوقع أنني كلما خطر على بالي أن أسمع صوتك، أتصل بك وكأنك صديقي الذي يملك كل الوقت ليبادلني الصداقة ويرد على اتصالاتي فوراً ومن دون وساطة ولا انتظار، لأسمع دائماً ما أحبه «سلام عمو». أنا لن أسأل اليوم كيف كنت تجد وقتاً لجهادك ولنصرة المظلوم والحروب التي أعززتنا ونصرتنا بها، مع أن هذا كان ليكفيني جداً. لكني أسأل، ومن البديهي أن أفعل، كيف كنت تجد وقتاً لتجيب أنت دائماً على اتصالي وتسرق لي زمناً خاصاً بي عنوانه “سلام عمو، كيف حال ابنتنا؟». وكنت تحرص على أن تصل حصتي من العسل الذي كنت أنت تعدّه بنفسك سنوياً. وتنبّهني، وتوبّخني إذا اقتضى الأمر، وتقول بعدها «ألستُ والداً؟ هذا ما يفعله الوالد».
أعرف أن كثراً يتمنون لو كانوا مكاني. ولكني اليوم أقول لكم إن فقد شخص مثل قاسم سليماني هو أصعب ما يمكن أن يمرّ به أحد، لعله كخروج الروح من الجسد.
وهذا الألم كله، وأنا لست ابنته من لحمه ودمه. أعان الله قلبكم يا زينب ونرجس وفاطمة، عائلتي الثانية. ماذا يمكن أن أقدم لكم وفاءً للحب والحنان والإنسانية والرجولة والبطولة والنصر والجمال والدين وكل ما في هذه الدنيا من معانٍ وقيمٍ محمدية أثبتها والدكم بالفعل.
أنا أؤمن بأن أمثال الحاج قاسم يختارون هم متى يُسلِمون الروح. ولقد أخبرته بهذا قبل أشهر من استشهاده. أخبرته بإحساسي بأنه قرر الرحيل، ورجوته أن يمهلني وقتاً إضافياً لعلي أستطيع أن أنظر إليه بتمعنٍ أكثر، أو أن أرتوي منه أكثر… أن أسبق الزمن، أن أستزيد من حنانه وجماله، أن أحسَ ولو ليوم إضافي بأن الله نظر إليّ نظرة خاصة بعدما فقدت عماد، تجلّت بـ«عمو».
لن أختم بعبارة «مرّ عام»، فمعك لا أعوام ولا أزمان، أنت باختصار رجل من خارج هذا الزمان.


 

 

يوم 16 شباط 2018، كتبت فاطمة مغنية هذه الخاطرة خلال توجّهها مع الحاج قاسم سليماني إلى مدينة مشهد الإيرانية، بعد انتهاء إحياء الذكرى السنوية العاشرة لاستشهاد القائد عماد مغنية في طهران:

■ ■ ■

بدون ترتيب مسبق رزقنا الله زيارة مولانا علي بن موسى الرضا مع وليّ من أوليائه، وهو القائد الجندي الوفي للوليّ الفقيه القائد المفدّى السيد علي الخامنئي. لحظة لا تشعر بها حتماً والوقت يمر ببطء وتتمنّى لو أنه يبقى طوال العمر. نبقى في الطائرة بين الأرض والسماء مع أشدّ الناس إخلاصاً على وجه هذه الأرض. في السنة العاشرة لاستشهاد والدي أعيد لي نفس الإحساس بالانتماء لأب مجاهد قويّ يمر من أمام الناس فتشعر بقربه بالفخر، وله إجراءاته الخاصة التي خصّ الله بها بعضاً من عباده وأبناء عباده. أخشى أن أفقدك وأفقد ما أعدت لي من أجمل الأحاسيس التي ما أحسستها إلا مع عماد.

■ ■ ■

ردّ سليماني على خاطرة فاطمة مغنية وكتب
باسمه تعالى
ابنتي العزيزة فاطمة،
أولاً نحبك أنت وعائلتك خصوصاً حبيبي وصديقي سامر. عزيزتي فاطمة لا تخرجوا من هذا المنهج، هذا المنهج طريق الأولياء وطريق الجنة، وهذا الطريق يوصلكم إلى رضوان الرضوان.
نحتاج دعاءك حالياً وبعد
أبوكم قاسم
طائرة طريق مشهد