الضربات الإسرائيلية على «فوردو» لن تغيّر المعادلة: المنشأة ليست آخر الحصون، وإيران حصّنت برنامجها النووي تحسّباً لأي هجوم أميركي أو إسرائيلي.
وقّعت إيران والولايات المتحدة، عام 1957، اتفاقية تعاون نووي غير عسكري. وبعد عشر سنوات، افتتحت إيران مركز «طهران للأبحاث النووية» في «جامعة طهران»، المعروف اليوم بمفاعل «أمير آباد للأبحاث الطبية»، فيما باعت الولايات المتحدة لإيران مفاعل أبحاث بقوة 5 ميغاواط، قامت الأخيرة بتركيبه وتشغيله.
وفي السبعينيّات، وضع الشاه محمد رضا بهلوي خططاً طموحة لبناء ما يصل إلى 20 محطة طاقة نووية في أنحاء البلاد، بدعم من الولايات المتحدة وأوروبا.
وفي الحقبة نفسها، تمّ توقيع عقود مع شركات غربية، وبُدئ ببناء محطة «بوشهر» عام 1974، بواسطة الشركة الألمانية «كرافتفيرك يونيون». وفي العام نفسه، تأسّست منظمة «الطاقة الذرية الإيرانية»، التي تمّ تعيين المهندس أكبر اعتماد، أول رئيس لها.
أيضاً، شهدت تلك الحقبة تعاوناً عسكرياً إيرانياً – إسرائيلياً، وذلك في المجالات العسكرية والصاروخية، تُوّج بـ«مشروع فلاور» (Project Flower) الذي عمل على تطوير صواريخ أرض – أرض متقدّمة؛ إذ كشفت الوثائق التي تعود إلى الفترة المذكورة أنّ الجانب الإسرائيلي طوّر بموجب المشروع المشار إليه، قدرة الصواريخ على حمل رؤوس حربية نووية، الأمر الذي يدلّ على إدراك الطرفين للطبيعة الحسّاسة لهذه التكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج (Dual-use capabilities).
وآنذاك، تكفّلت إيران بتمويل جزء كبير من تكاليف هذا المشروع، بما في ذلك الدفع بالنفط الخام، فيما كان من المفترض أيضاً أن توفّر موقعاً لإسرائيل لإجراء اختبارات الإطلاق بعيدة المدى.
ولم تقتصر مآثر «الحقبة الشاهنشاهية» على «مشروع فلاور» وحده، في إطار المشاريع العسكرية المشتركة مع إسرائيل، بل كان ذلك واحداً من عدّة مشاريع. ومع اندلاع الثورة الإسلامية في شباط/ فبراير 1979، توقّف «فلاور»، وغادر المهندسون الإسرائيليون وجميع المعنيين به إيران، حاملين معهم الخرائط والوثائق المتعلّقة به عبر القنوات الدبلوماسية، قبل أن يتوقّف البرنامج النووي برمّته، إثر سقوط نظام الشاه وقيام الجمهورية الاسلامية.
وخلال الحرب العراقية – الإيرانية في الثمانينيات، تعرّضت محطة «بوشهر الكهروذرية» لضربات جوية عراقية، بتوجيه فرنسي – ألماني – أميركي. وبعد انتهاء الحرب، أطلقت طهران عملية إعادة إعمار، ثم بدأت في التسعينيات بالتعاون في المجال النووي مع روسيا، بالتوازي مع السعي لتوطين الصناعات النووية بقدرات وطنية. وانطلق ذلك السعي من توسيع إيران لمنشأتَي «نطنز» و«أصفهان»، وإنشاء مفاعل «آراك» ومنشأة «خنداب» للمياه الثقيلة، والعمل على إعمار مفاعل «بوشهر».
وابتدأ الكشف عن المشروع النووي رسمياً عام 2002، لتليه مفاوضات مع الترويكا الأوروبية، وصولاً إلى توقيع «معاهدة سعد آباد» عام 2003، التي تعهّدت فيها حكومة محمد خاتمي بعدم تخصيب اليورانيوم، وذلك بعد التهديدات الدولية الهائلة، والحصار المفروض على إيران من جهتَي أفغانستان والعراق على خلفية العدوان الأميركي فيهما.
والجدير ذكره، هنا، أنه آنذاك لم تكن لدى إيران مقدرات عسكرية لازمة للمواجهة؛ ولذا رضخت الحكومة لمطلب وقف عمليات التخصيب كافة – رغم اقتصارها على الأبحاث العلمية -، خلافاً لموقف قائد الثورة السيد على خامنئي، الذي رفض هذا التراجع.
وعند وصول الرئيس محمود أحمدي نجاد إلى السلطة عام 2005، تغيّرت المعادلات، وأعلنت إيران استكمال دورة الوقود النووي، بهدف تعزيز البرنامج النووي للأغراض السلمية، وخصّصت يوماً وطنياً للطاقة النووية في شهر آذار/مارس. ومنذ ذلك الحين، انطلق مسار التفاوض والتهديد بشأن البرنامج النووي، ووقّعت عدة تفاهمات واتفاقيات متتالية حتى عام 2015، حين انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق النووي. ومذاك، فضّلت إيران كفّة الدبلوماسية والحوار علناً، لكنها عملت في الوقت نفسه على تحصين منشآتها، خصوصاً الحسّاسة من مثل «نطنز»، التي تعرّضت قبل سنوات لعملية تفجير استهدفت منشآتها السطحية. أمّا مفاعل «آراك» للمياه الثقيلة، فقد وافقت إيران على إعادة تصميمه عبر تفكيك قالبه، بحيث لا ينتج البلوتونيوم، بمشاركة صينية. لكنّ العملية لم تُستكمل حتّى اليوم بسبب العرقلة الأميركية.
وخلال الهجوم الحالي، تعرّضت منشأة خنداب لإنتاج المياه الثقيلة، بدورها، لضربات إسرائيلية، فيما ألحقت الضربات التي وجّهت إلى المنشآت النووية، ضرراً كبيراً بها، علماً أنّ هذه الأخيرة هي بالمجمل ورش تصنيع وتجميع وإدارة مواقع، ولا تحتوي على أي عناصر إشعاعية، باستثناء صالة التخصيب تحت الأرض في «نطنز»، والتي سُجّلت فيها أضرار من دون أي تلوّث نووي خارجي.
وإذ كان استهداف أغلبية المواقع النووية العلنية والمعروفة، الهدف الأساسي للهجوم الإسرائيلي للإيحاء بتحقيق إنجاز تدميري كبير، ومن ثم خلق صورة «نصر»، فإنّ إقامة تلك المنشآت فوق الأرض أفقدت العملية بُعدها الرمزي، في حين تحاول تل أبيب إيهام العالم بأنّ نقطة النهاية هي في منشأة «فوردو» الواقعة جنوب محافظة طهران.
ويُشار، هنا، إلى أنّ إيران حفرت منشأة «فوردو» تحت الأرض، وزوّدتها بأجهزة طرد مركزي من طراز «IR6»، وذلك لمعرفتها المسبقة بمثول تهديد أساسي، أميركي أوّلاً وإسرائيلي ثانياً، وهو ما أخذته على محمل الجدّ، في وقت حفرت فيه المنشأة في عمق الجبال، ودعّمتها من الداخل وجهّزتها للحماية من الضربات الخارجية حتى بالقنابل الخارقة للتحصينات، فيما تشير التقديرات إلى أنّ نسبة التراكم الإسمنتي والصخري الذي يحيط بها كبير جداً، الأمر الذي يمنع تدميرها من الخارج.
وبالتالي، فإنّ العجز الإسرائيلي عن ضرب «فوردو»، والإيحاء بأنها المتبقّي الوحيد من البرنامج النووي وأنّ على أميركا ضربها لإغلاق هذه الحرب، ليس سوى محاولة توريط للولايات المتحدة، التي تبارك أصلاً الهجوم الإسرائيلي.
وفيما يعرف الجميع أنّ تحييد المنشأة لا يمكن أن يتمّ إلا عبر اختراقها برّاً من الداخل، فالأكيد أنّ القيادة الإيرانية أعدّت نفسها لهذا السيناريو، ما يعني أنّ التدخّل البرّي لضرب المنشأة ستكون له أثمان باهظة الكلفة على القوة المهاجمة. وفي حال تم تحريك خلايا نائمة، يبقى السؤال: هل يمكنها الوصول إلى تلك المنطقة؟ وما هو الثمن الذي سيُدفع عند محاولة ذلك؟
وعلى أي حال، تمثّل معركة «فوردو» «مفتاح الحل» لإسرائيل لتحقيق ما تعتبره نصراً، في وقتٍ نقلت فيه طهران معظم تجهيزاتها من المنشأة إلى مواقع أكثر أمناً. ولذا، لم تعد «فوردو» آخر حصون إيران النووية، نظراً إلى أنّ السلطات قد اتّخذت بالفعل إجراءات وقائية واحترازية لبرنامجها النووي، لإدراكها أنّ «الوكالة الدولية للطاقة الذرية» تشكّل عين واشنطن وتل أبيب في الداخل الإيراني.
حسن حيدر