لم يَحِد الرئيس الأميركي، جو بايدن، عن مسار سلفه دونالد ترامب، لجهة التصعيد المتهوّر مع الخصوم، وازدراء الحلفاء الذي وزّعهم على مرتبات، تحوز فيها أستراليا وبريطانيا موقعاً متقدّماً. اتجاهٌ يجلّيه تحالف «أوكوس» بين هذه الدول الثلاث، والمتوقَّع أن يرفع منسوب التوتُّر بدرجةٍ غير مسبوقة في منطقة آسيا – المحيط الهادئ، حيث تعاد صياغة تحالفات الولايات المتحدة على قاعدة «الاستدارة نحو آسيا»، بعدما أضحت حاسمة في عهد الإدارة الحالية التي وجدت مَن هو مستعد للسير خلفها من دون شروط في حربها الصليبية ضدّ الصين
من النادر أن يتقاطع التوصيف الصيني والفرنسي للسياسة الخارجية الأميركية إلى حدّ التطابق كما يحصل اليوم. في البلدين، تُتَّهم إدارة الرئيس الديموقراطي المنتخَب باعتماد مقاربة «ترامبية من دون ترامب». لم يتردّد جو بايدن في الإقدام على خطوة استفزازية خطيرة ضدّ الصين، رفعت منسوب التوتّر بشكل غير مسبوق في منطقة آسيا – المحيط الهادئ من جهة، وفي الآن نفسه، دفعت حليفه الأسترالي إلى إلغاء صفقة غواصات ضخمة مع فرنسا، وهي حليف آخر نظرياً، مقابل حصول كانبيرا على غواصات أميركية بدفع نووي، من جهة أخرى. تصعيد متهوّر يصعب التنبّؤ بنتائجه مع الخصوم، وازدراءٌ قلّ نظيره لحلفاء مفترضين. ألم يكن مثل هذا النهج هو المأخذ الجوهري على السياسة الخارجية التي اتّبعها الرئيس الأميركي السابق؟ مع بايدن، أضحت «الاستدارة نحو آسيا»، التي أعلن عنها الرئيس باراك أوباما، في عام 2012، حاسمة، وتجب ما عداها من أولويات، وتعاد صياغة تحالفات الولايات المتحدة وترتيبها على قاعدتها. المستعدّون للسير من دون شروط خلف القيادة الأميركية في حربها الصليبية ضدّ الصين هم الحلفاء الخلّص، الذين يستحقّون أن تقوم واشنطن بمشاركتهم بأهم ما وصلت إليه من تقدّم عسكري وصناعي وعلمي، ترقى إلى قدر من الاندماج كما ينص اتفاق «أوكوس». أما الآخرون، فما عليهم سوى الانصياع لهذه القيادة أو التنحّي جانباً والبقاء خارج «اللعبة». المنطق العميق الذي يحكم هذه السياسة هو في الواقع منطق الفسطاطين الذي ساد إبّان العهد الأول لجورج بوش الابن: «إما معنا وإما ضدّنا». لا مكان لمواقف «وسطية» كتلك التي عبّر عنها مسؤولون فرنسيون وألمان في فترات سابقة، عندما رأوا، انسجاماً مع تصريحات سابقة لبايدن نفسه، أن المطلوب هو تحسين شروط المنافسة مع الصين، لا الدخول في صراع مفتوح معها. هل ستكون للتعاطي الأميركي مع فرنسا تداعيات فعلية طويلة الأمد على العلاقات بين البلدين، وعلى ما يسمى بالشراكة الأورو – أطلسية؟ من المبكر، حتى اللحظة، الإجابة على السؤال بالإيجاب أو بالنفي، على رغم تعبير فرنسا عن غضبها عبر استدعاء سفرائها في واشنطن وكانبيرا، والتصريحات الحادّة التي أطلقها وزير خارجيتها، جان إيف لودريان، حيال تعامل الدولتين معها. المؤكد حتى الآن هو أنّ المواجهة الأميركية – الصينية المحتدمة في شرق آسيا، ستلعب دوراً حاسماً في تسريع الاستقطاب الدولي وإعادة تشكيل البيئة الاستراتيجية في هذه المنطقة وعلى صعيد عالمي.
ما قبل «أوكوس» ليس كما بعده
لفهم النقلة النوعية التي يمثّلها اتفاق «أوكوس» في استراتيجية الاحتواء البحرية والبرية الأميركية للصين، ينبغي العودة إلى تقدير دقيق لميزان القوى الراهن في منطقة آسيا – المحيط الهادئ، والتغييرات الناجمة عن الاتفاق المذكور. شرعت الصين، في العقدَين الماضيين، في عملية تحديث نشطة وواسعة النطاق لقدراتها العسكرية البرية والبحرية على حد سواء، إلى درجة أنّ بعض الخبراء الأميركيين والغربيين جزموا بأنها، في الميدان البحري، أصبحت تمتلك أكبر أسطول عسكري يصعب معرفة حجمه الحقيقي. وفي تقرير صادر عن «البنتاغون»، في الأول من أيلول 2020، أكّد الأخير أنّ أسطول بكين العسكري يتألّف من 350 قطعة بحرية من أحجام مختلفة وغواصات، بينما لا يضمّ الأسطول الأميركي سوى 293 قطعة بحرية. صحيح أنّ البحرية الأميركية أكثر تطوّراً على المستوى التكنولوجي، إذ لديها 11 حاملة طائرات نووية، هي بمثابة منصّات لمئات الطائرات من جميع الأنواع، إضافة إلى شبكة القواعد العسكرية المنتشرة عبر العالم، بينما ليس لدى بكين سوى حاملتَي طائرات تعملان بالدفع التقليدي. غير أن التقرير يضيف أنها ماضية في عملية تطوير نشطة لقدراتها التي تفوق القدرات البحرية لجميع بلدان هذه المنطقة، إذا لم نأخذ في الحسبان القدرات الأميركية. لليابان قدرات بحرية تجعل منها القوة الثالثة، إن صحّ التعبير، في هذه المنطقة، مع 40 قطعة بحرية عسكرية وحاملتَي مروحيات تقوم بتطويرهما لتصبحا منصات لطائرات «F35B» عمودية الانطلاق. للهند أيضاً أسطول بحري يضمّ غواصات، ينمو باضطراد. شرعت أستراليا هي الأخرى بتطوير قدراتها البحرية، غير أن صفقة الغواصات النووية مع واشنطن تشكّل قفزة نوعية في هذا المضمار.
يشير البعض إلى أنّ «صلة الرحم» بين واشنطن والدول الأنغلوساكسونية تحملها على تمييزها
عن هذا الموضوع، يقول الأميرال لي سي مينغ، رئيس هيئة الأركان التايواني السابق، في مقابلة مع «فايننشال تايمز»، إن الصفقة «تمنح أستراليا ردعاً استراتيجياً وقدرات هجومية لا سابق لها، مع قدرة على الحركة بعيداً من مياهها الإقليمية، وعلى قصف الصين بصواريخ توماهوك في حال اندلاع نزاع معها». وهو يضيف أن «التموضع المنطقي لمثل هذه الغواصات يجب أن يكون في المياه العميقة بجوار تايوان». يوضح هذا الكلام، الصادر عن مسؤول سابق في بلد يقع في قلب المواجهة مع الصين، الأبعاد الفعلية لصفقة الغواصات وطبيعة استراتيجية الاحتواء الأميركية ضدّ هذا البلد. فـ«الاحتواء»، كما أظهرت التجربة التاريخية مع الاتحاد السوفياتي السابق، لا يستند فقط إلى الانتشار عسكرياً في جوار العدو، بل إلى افتعال وتأجيج بؤر توتّر في جواره لاستنزافه. هذا ما حصل مع اعتماد واشنطن سياسة «الحزام الديني» ضدّ السوفيات، الكاثوليكي في بولونيا عبر دعم نقابة «تضامن»، والإسلامي الجهادي في أفغانستان. للصين نزاعات حدودية برية وبحرية عديدة مع بلدان الجوار، أكثرها سخونة موقفها من تايوان، إذ كرّر رئيسها، شي جين بينغ، أن توحيدها مع الوطن الأمّ «مهمّة تاريخية والتزام لا يتزعزع»، واعتبارها بحر الصين مياهاً إقليمية لا دولية، كما تصرّ الولايات المتحدة وحلفاؤها، والنزاع الحدودي مع الهند. ستعمد الولايات المتحدة إلى الوقوف في صفّ خصوم الصين لتشجيعهم على التصلّب في مقابلها وتعميق حدّة الأزمات بينهم وبينها، وتضييق هامش مناورتها البحرية وتهديد طرق مواصلتها التجارية إن اقتضى الأمر ذلك. نقطة أخرى ينبغي الالتفات إليها بالنسبة إلى اتفاق «أوكوس»، وهي تلك الخاصة بتطوير التعاون العسكري والصناعي والعلمي بين أطرافه الثلاثة، وتحديداً في ميادين الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية والحرب السيبرانية، لمجابهة التقدّم الصيني النوعي فيها.
فرنسا حليف أطلسي من الدرجة الثانية
كشفت أزمة الغواصات بين باريس من جهة، وواشنطن ولندن وكانبيرا من جهةٍ أخرى، حقيقة أن «الحلف الأطلسي» هو هندسة بمستويات متعدّدة، أي بكلام آخر، ومن منظور واشنطن، وجود حلفاء من الدرجة الأولى وآخرين من الدرجة الثانية. يشير البعض إلى أن هذا الأمر ليس جديداً، وأن «صلة الرحم» بين الولايات المتحدة والدول الأنغلوساكسونية تحملها على تمييزها والتعاون الأمني والعسكري معها بشكلٍ أكبر. غير أن أهمية العوامل التاريخية والثقافية في تفسير الموقف الأميركي لا تلغي طغيان العامل السياسي عند محاولة فهمه. هذا ما لاحظته سيليا بولان، الباحثة الفرنسية في معهد «بروكينغز»، عندما اعتبرت أن «الموقف الفرنسي الذي يريد التحالف مع الولايات المتحدة مع الإصرار على الاستقلالية صعب الترجمة عملياً، لأن واشنطن تطلب انقياداً كاملاً خلفها». وهي أوصت المسؤولين الفرنسيين بـ«تجنّب مواجهة علنية كتلك التي حصلت خلال الحرب على العراق، في عام 2003، والتي لم تخدم مصالح فرنسا». ترتفع الأصوات الداعية إلى استخلاص دروس هذه الأزمة حالياً في فرنسا، والعمل الجادّ لبناء سياسة أوروبية خارجية ودفاعية مستقلّة عن واشنطن. لكن، حتى الآن، من الملحوظ غياب أيّ تصريح أوروبي رسمي يتضامن مع باريس، بعد «الطعنة» التي تلقّتها من واشنطن، باستثناء المعلومات التي رشحت عن إبداء المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، استيائها تجاهها، خلال عشائها الوداعي مع إيمانويل ماكرون منذ أيام خلت. مُنيت فرنسا بخسارة من «العيار الثقيل» لَحِقَت بقسم وازن من قطاع صناعتها العسكرية والتكنولوجية. فاتفاق الغواصات، الذي وقّعته مجموعة «نافال غروب»، تمّ بين الدولتين الأسترالية والفرنسية، أي أن الأخيرة كانت الضامن له، وهناك عشرات الشركات التي كانت ستشارك في صناعة هذه الغواصات، كمتعاقدين رئيسين أو ثانويين، وبينها تلك العاملة في مجال التكنولوجيا المتطوّرة التي تجهّز الغواصات بالرادارات وأنظمة الاستشعار والاتصال وبمنظومة الأسلحة والصواريخ. وإن صحّت التسريبات الصحافية عن ضغوط أميركية على سويسرا للتراجع عن شراء طائرات «رافال» الفرنسية، في مقابل حصولها على «F35» الأميركية، سنكون أمام تصعيد كبير للضغوط الأميركية على صناعات السلاح الفرنسية، الذي تمثّل صادراته 8.2 في المئة من إجمالي صادرات السلاح في العالم، وأحد الموارد الحيوية بالنسبة إلى الاقتصاد الفرنسي. طرب المسؤولون الفرنسيون لوعود «الدكتور» بايدن عن الشراكة بين الديموقراطيات ومحاسن النظام الليبرالي الدولي، ليعودوا ويكتشفوا، بسرعة، أن «روح» ترامب الشريرة، المهجوسة بشعار «أميركا أولاً» تتلبّسه تماماً!
«أوكوس»… أكبر من تحالف أمني
اجتمعت «الديموقراطيات الأنغلوساكسونية»، الولايات المتحدة وأستراليا وبريطانيا، تحت مظلّة تحالف أمني – استراتيجي متعدّد المستويات، يركّز بشكل رئيس على منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، ويسعى إلى التكامل بين هذه الدول، لاحتواء الخصم الصيني في منطقة سريعة التحوّل. الاستثمار في التحالفات، وهو دأب الرئيس الأميركي جو بايدن، ولُب سياساته الهادفة إلى استعادة أميركا موقعها الريادي المتقدّم في العالم، بعد انتكاسات متتالية: داخلية عزّزتها سطوة اليمين والديموقراطية المتهافتة في السنوات الأربع الأخيرة، وخارجية لم يكن الانسحاب العسكري من أفغانستان إلّا أبهى صورها، بدأ يتبلور منذ الإعلان عن «تحالف أوكوس» بين هذه الدول الثلاث. وإن كانت كانبيرا بيضة قبان الاتفاق السالف، نظراً إلى موقعها الجغرافي، كهمزة وصل بين الشرق والغرب، إلّا أن لندن الساعية إلى التمايز عن محيطها الأوروبي بعد «بريكست»، أُلحقت به، بسبب استعدادها للانقياد التام خلف الحليف الأميركي. وأتى الإعلان عن المعاهدة الأمنية الجديدة خلال قمة افتراضية استضافها الرئيس الأميركي جو بايدن في البيت الأبيض، وشارك فيها كلّ من رئيسَي الوزراء البريطاني بوريس جونسون، والأسترالي سكوت موريسون، ليعكس «المستوى الفريد من الثقة والتعاون بين البلدان الثلاثة، التي تشارك بالفعل معلومات استخبارية واسعة من خلال تحالف العيون الخمس». أمّا الثمرة الأولى في إطار الاتفاق، فهي التعاون لتوفير غواصات تعمل بالدفع النووي للبحرية الملكية الأسترالية، والتي سيتم نشرها، وفق ما جاء في بيان الثلاثي، «لدعم قيمنا ومصالحنا المشتركة»، و«لتعزيز السلام والاستقرار في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ».
يمثّل الإعلان، بلا شكّ، نقطة تحوّل استراتيجي، لا سيما أنها المرّة الأولى التي ستشارك فيها الولايات المتحدة مثل هذه التكنولوجيا الحسّاسة مع دولة أخرى غير بريطانيا (1958). وتقول كانبيرا إن استحواذها على هذه التكنولوجيا المتطوّرة، «حتّم» عليها إلغاء صفقة ضخمة بقيمة 60 مليار دولار أبرمتها مع باريس، وعرفت باسم «صفقة القرن» للصناعة الدفاعية الفرنسية، لشراء 12 غواصة تقليدية من طراز «أتّاك». لكن ما سبق يشكّل واحداً من مستويات التعاون في إطار التحالف الجديد؛ إذ تقول صحيفة «غارديان» البريطانية إن «أوكوس» يفتح الباب أمام تعاون عسكري أكبر بين الحلفاء التقليديين الثلاثة، وسيدعم تعاوناً واسع النطاق بينهم في مجالات مثل الأمن السيبراني، والذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمية، وهو ما تسعى إليه الصين بشكل مكثّف. وتلفت الصحيفة نفسها إلى أن الردّ الحازم والموحّد على تصرّفات بكين من قِبَل «الدول الديموقراطية» أمر منطقي ومرغوب فيه.
يفتح «أوكوس» الباب أمام تعاون في مجالات مثل الأمن السيبراني، والذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمية
أما في شأن ما إذا كان هذا الاتفاق سيقيّد الصين أو سيدفعها إلى تعزيز قدراتها العسكرية، والسعي وراء علاقات أوثق مع روسيا، وتكثيف أشكال الضغوط الأخرى، فهو متروك للمستقبل المنظور. وفي هذا الاتجاه، ترى «واشنطن بوست» الأميركية أن «أوكوس» تشكّل «تحدّياً مباشراً لطموحات الصين وقدراتها، لأن تعزيز القدرات البحرية الأسترالية يسمح لها بفرض دفاع أقوى إذا كانت بكين تهدّد مصالحها الاستراتيجية، كما أنه يضع بريطانيا وأميركا بشكل مباشر خلف أستراليا، وهو ما سيجبر الصين على الاعتراف بأن أيّ محاولة للتنمر على جارتها ستواجه مقاومة موحدة، فلا عجب أن تندّد بقوّة بالصفقة». وبحسب موقع «ستراتفور»، سيبقى «أوكوس» مبادرة ثلاثية تسمح بمزيد من التعاون والتركيز الاستراتيجي من دون تعقيدات الائتلافات الكبيرة، والتي غالباً ما تقع ضحية للأولويات والمصالح المتباينة، وقد يؤدّي تركيزه العسكري الاستراتيجي الواضح إلى زيادة الاحتكاك بين الولايات المتحدة والصين، وزيادة الجهود الصينية لإجبار مختلف الدول على الابتعاد عن التعاون مع واشنطن.
وفي تفاصيل الاتفاق الذي أُعلن عنه الأسبوع الماضي، تورد «نيويورك تايمز» أن الولايات المتحدة وأستراليا بذلتا جهوداً كبيرة للحفاظ على سرّية مفاوضاتهما حول صفقة الغواصات النووية والحؤول دون علم باريس بها. وبحسب الصحيفة، فإن المفاوضات حول الصفقة الجديدة بين الأميركيين والأستراليين بدأت بعد وقت وجيز من تنصيب جو بايدن، إذ تواصل الأستراليون مع الإدارة الجديدة قائلين إنهم توصّلوا إلى أنه يتعيّن عليهم إلغاء الاتفاق الذي أبرموه مع فرنسا، والبالغة قيمته 60 مليار دولار لتزويدهم بغواصات حربية، وأعربوا عن خشيتهم من أن الغواصات الفرنسية التي تعمل بالطاقة التقليدية قد يكون طرازها قديماً بحلول موعد تسليمها، وعن رغبتهم في الحصول على أسطول من الغواصات الأقل ضجيجاً والتي تعمل بالدفع النووي والمصمَّمة من قِبَل الولايات المتحدة وبريطانيا بغرض استخدامها لتسيير دوريات في مناطق بحر الصين الجنوبي، بحيث تصبح مخاطر اكتشافها أقلّ. وتفيد «نيويورك تايمز» بأن بايدن، الذي جعل من التصدّي لطموحات الصين الإقليمية محور سياسته للأمن القومي، أخبر مساعديه بأن الغواصات فرنسية الصنع لن تفي بالغرض المطلوب، كونها لا تملك القدرة على أن تجوب المحيط الهادئ لتظهر بشكل مفاجئ قبالة الشواطئ الصينية، وتضمن للغرب عنصر مفاجأة عدوّه عسكرياً، موضحةً أن قرار الرئيس الأميركي يشير إلى أنه بدأ تنفيذ استراتيجية «الاستدارة نحو آسيا» التي وضعتها إدارة الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، قبل 12 عاماً.
كيوسك الصحافة
تحوّل جيوسياسي عميق
في بعض الأحيان، يمكنك رؤية الصفائح التكتونية للجغرافيا السياسية وهي تتحرّك أمام عينيك. السويس في عام 1956، زيارة نيكسون الصين في عام 1972، وسقوط جدار برلين في عام 1989، من الأمثلة في الذاكرة الحيّة. كذلك، يوفّر الكشف، الأسبوع الماضي، عن اتفاقية دفاع ثلاثية بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، واحدة من تلك المناسبات النادرة (…). تُظهر الأصداء القوية لـ«أوكوس» ما يمثّله من تحوّل عميق. بالنسبة إلى أميركا، تُعدّ هذه الخطوة الأكثر دراماتيكية، حتى الآن، في تصميمها على مواجهة ما تعتبره تهديداً متزايداً من الصين، ولا سيما التحدّي البحري الذي تشكّله في المحيط الهادئ. لا تشارك أميركا جواهر تاج التكنولوجيا العسكرية – أي محطّة دفع الغواصات النووية – مع حليف للمرّة الثانية، خلال 63 عاماً (المرة الأخرى مع بريطانيا)، فقط، بل هي تشير، بقوّة، إلى التزامها الطويل الأمد بما تسمّيه «منطقة المحيطَين الهندي والهادئ الحرّة والمفتوحة».
العديد من دول المنطقة، التي لديها شعور بالتهديد من الصين، ترحّب بذلك. سيوفّر «أوكوس»، الآن، خلفية قوية للاجتماع الشخصي الأول بين زعماء الرباعية – أميركا وأستراليا والهند واليابان – في واشنطن العاصمة، في 24 أيلول. خلال الشهر الماضي، وسط انسحاب فوضوي من كابول، كان هناك حديث عن افتقار أميركا إلى القدرة على الحفاظ على القوّة، وفقدان الثقة بين حلفائها. مع كلّ الغضب في باريس، يغيّر «أوكوس» تلك الرواية. «الأهمية الأكبر لهذا، هو أن الولايات المتحدة تعزّز موقفها مع حلفائها، وأن حلفاءها يعزّزون موقفهم تجاه الولايات المتحدة»، يقول مايكل فوليلوف من معهد «لوي» في سيدني، مضيفاً: «لسوء الحظ، فإن فرنسا تعدّ أضراراً جانبية».
من جهة أستراليا، كان التخلّي عن عقد الغواصات مع فرنسا خطوة جريئة. على الرغم من أن الصفقة مع «Naval Group»، وهي شركة تملك الدولة الفرنسية الحصّة الأكبر فيها، قد واجهت صعوبات بشأن تكاليفها المتصاعدة وتأخيراتها (…)، إلّا أنها كانت واحداً من أكبر العقود في تاريخ أستراليا، وكان يُعتقد على نطاق واسع أنه أكبر من أن يتمّ التخلص منه. إن قيام الحكومة بذلك، على الرغم من احتمالية فرض عقوبات كبيرة، يعكس حجم رهانها على أميركا كحليف، وجاذبية تكنولوجيا الغواصات التي ستحصل عليها: أكثر قدرة على التخفّي، وذات مدى أطول بكثير من تلك التي تعمل بالديزل والكهرباء.
قد تكون بريطانيا الأقلّ أهمية بين ثُلاثيّ «أوكوس»؛ من المؤكّد أنه جرى التقليل من شأن دورها، في القرار الفرنسي عدم استدعاء سفيرها في لندن (أطلق جان إيف لو دريان على بريطانيا وصف «العجلة الثالثة» في الصفقة)، ولكن، مع ذلك، توضح الاتفاقية بالنسبة إلى بوريس جونسون الدور المتغيّر لبلاده في العالم. وهي تتناغم، بشكل ملائم، مع جهود ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، للترويج لـ«بريطانيا العالمية». كذلك، تعطي هذه الصفقة مضموناً لـ«الميل نحو المحيطين الهندي والهادئ»، الذي تمّ تبنّيه في مراجعة شاملة للسياسة الخارجية والدفاعية، نُشرت في آذار.
بالنسبة إلى الفرنسيين أيضاً، يُبلور «أوكوس» ما يرونه حقائق عميقة في العلاقات الدولية، ولا سيما فكرة أن أوروبا بحاجة إلى مزيد من «الحكم الذاتي الاستراتيجي»، حتى لا تعتمد بشكل مفرط على أميركا. ومع ذلك، فإن ردّ الفعل الصامت بين شركاء فرنسا الأوروبيين، يلقي بظلال من الشكّ على مدى جدّية مثل هذا الحكم الذاتي. بعد ظهور أخبار صفقة «أوكوس»، دعا مسؤول ألماني إلى «التماسك والوحدة» بين القوى الغربية، وهو الأمر الذي قال إنّه يتطلّب «الكثير من الجهد» لتحقيقه (…).
تعلّق فرنسا أهمية كبيرة على دورها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، حيث تحتفظ بحوالى 7000 جندي، ولديها ما يقرب من مليونَي مواطن، بما في ذلك أراضي الجزر، مثل كاليدونيا الجديدة وبولينيزيا الفرنسية. لقد دأبت على بناء ما اعتقدت أنه علاقة أوثق مع أستراليا. وأخيراً في 30 آب، تحدّث البيان الصادر عن المشاورات الوزارية الأسترالية – الفرنسية الرفيعة المستوى، عن «قوة شراكتنا الاستراتيجية» عبر العديد من المجالات، وشدّد على «أهمية برنامج المستقبل للغواصات». ومع هذا، لم يتمّ إخطار فرنسا في تلك القمّة بنيّة إنشاء «أوكوس»، ولا في العديد من المؤتمرات الأخرى على مدار الأشهر التي كان فيها التحالف قيد الإعداد (…).
(ذي إيكونوميست)
نظام عالمي جديد يتشكّل
يبدأ عالم جديد في التبلور، حتى لو ظلّ مقنَّعاً بملابس القديم.
(…) خلف المسلسل التلفزيوني الذي يصوّر الغضب الفرنسي، والصياح الهادئ على الأنغلو – ساكسونيين «الخونة»، يوجد شيء أكثر أهمية: الخطوط العريضة الباهتة لنظام عالمي جديد، أو على الأقلّ محاولة البدء في رسمه. كما لاحظ كارل ماركس، فإن القادة الذين يحاولون خلق شيء جديد «يستحضرون أرواح الماضي لخدمتهم». يتمّ نشر اللغة القديمة والشعارات والأزياء، لتقديم مشهد التنكّر الجديد. على هذا النحو، بذل الرئيس جو بايدن قصارى جهده للإشادة بفرنسا، والادّعاء أنها لا تزال «شريكاً رئيساً» في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. كما أنه كان يعاني في سبيل الإشارة إلى أن الغواصات التي ستقوم بدوريات على الساحل الأسترالي، لن تكون مسلّحة نووياً، بل تعمل بالطاقة النووية. وشدّد بايدن على أن الولايات المتحدة لم تخرق التزاماتها بمنع انتشار الأسلحة النووية، لكنها ببساطة تعزّز التحالفات القائمة.
لكنّ النظر إلى ظهور «أوكوس» على أنه علامة على الاستمرارية – كما قدّمها مهندسوها – هو تفويت للفكرة. على الرغم من أن بايدن أشار إلى فرنسا مرّتين في تصريحاته، إلّا أن البلد الذي كان في ذهنه لم يُذكر على الإطلاق: الصين.
مسؤول رفيع المستوى في الإدارة الأميركية قال إن التحالف مصمّم لتعزيز القدرات في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، من خلال إدخال بريطانيا «بشكل أوثق في مساعينا الاستراتيجية في المنطقة ككل». لكن ما هو سعي بايدن الاستراتيجي؟ في بيانه، وضع بايدن رؤية لـ«منطقة المحيطين الهندي والهادئ الحرّة والمفتوحة». عبارة واحدة خالية من الهيمنة الصينية. وفقاً لمسؤول بريطاني، ظهر هذا المفهوم لأوّل مرة في اليابان، ومنذ ذلك الحين تبنّته أستراليا، وهي قوة أخرى في المحيط الهادئ شعرت بضغط من بكين (…). كان بايدن حريصاً على التأكيد أن «أوكوس» هو مثال لتحالف يعرض القوة الأميركية، على عكس التطوّر الذي حصل في ظلّ رفض دونالد ترامب مثل هذه الاتفاقات العالمية، والتي اعتبرها الرئيس السابق بمثابة عبء على الولايات المتحدة (…).
بالنسبة إلى أولئك الموجودين في الولايات المتحدة، والقلقين بشأن التوسّع الإمبراطوري للبلاد، فإن الأخبار التي تفيد بأنها دخلت في تحالف آخر للدفاع عن مناطق في العالم بعيدة عن شواطئها، قد تبدو وكأنها كابوس سبق أن شاهدوه (…). يرى بايدن وجونسون عالماً من التحالفات المتعدّدة والمتكاملة. على سبيل المثال، تحدّث بايدن عن «الرباعية» في بيانه، وهو التجمّع غير الرسمي للولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا، كما أنه ركيزة أخرى لسياسة الاحتواء الصينية لواشنطن. يمثّل هذا تبايناً مع عالم القرن العشرين، الذي تمحور حول تحالف عسكري على مستوى القارّة لاحتواء القوة العظمى المنافسة في ذلك الوقت. يرى جونسون أن ظهور عالم اليوم، بشكل أكثر خصوصية وذكاءً، أمر مثالي لبريطانيا، التي – في رأيه – فصلت نفسها عن ديمومة وعدم مرونة الاتحاد الأوروبي لدخول عالم أكثر «ديناميكية»، حيث يمكن أن تتفاعل بسرعة مع الأحداث، وتشترك في تحالفات جديدة مثل «أوكوس» على أساس مصالحها الوطنية الخاصة.
لكن ما يعكسه الإعلان عن التحالف، أيضاً، هو الحاجة إلى دعم النظام العالمي الذي تُرك ليذبل بعد 20 عاماً من الغطرسة والتجاوز الإمبراطوريين، واللذين كشف عنهما خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وانتخاب ترامب بالقدر نفسه. لم يؤدِّ قرار دعوة بكين للانضمام إلى النظام الاقتصادي العالمي، في عام 2001، إلى بكين أكثر ليبرالية أو ديمقراطية، كما تصوّرها قادة العالم، بل إلى خصم أكثر قوة وأكثر وحشية نما، بينما الولايات المتحدة وحلفاؤها (بما في ذلك بريطانيا وأستراليا) مشتّتو الانتباه في الشرق الأوسط وأفغانستان. في الواقع، يتعيّن على الولايات المتحدة التكيّف مع العالم الجديد للقوة الصينية، من أجل حماية عالم التجارة العالمية القديم «الحر والمفتوح»، والتفوّق الأميركي الذي بنته واشنطن بعد الحرب العالمية الثانية.
إن نهاية الحرب في أفغانستان، والتوجّه نحو الصين، وإعطاء الأولوية للتحالفات الأنغلو – قديمة على الاتحاد الأوروبي، كلّها تُعدّ تحرّكات استراتيجية كبرى. ومن هذا المنطلق، قال مسؤول بريطاني: «عندما تقوم بخطوات استراتيجية كبرى، فأنت تُغضب الناس».
(«ذي أتلانتك» – توم ماكتاغ)