لا عودة إلى الشارع قبل انتهاء مراسم أربعينية الإمام الحسين. هذا ما انتهت إليه الاتصالات المكثّفة بين الحكومة واللجان المنبثقة عن التحركات الشعبية الأخيرة. وفي وقت استمرّ فيه الهدوء في شوارع العاصمة بغداد والمحافظات الجنوبية، أطلّ رئيس الوزراء، عادل عبد المهدي، مساء أمس، ليعلن الحداد العام في البلاد لمدة ثلاثة أيام، وإطلاق سراح الموقوفين فوراً، مِمّن هم قيد التحقيق «إن لم تتوفر ضدهم أدلةٌ بارتكاب قضايا جنائية تتعلق بالقتل أو الإضرار البالغ بالأشخاص والممتلكات أو الأمن العام». وأشار عبد المهدي إلى أن تعليمات مشدّدة أُصدرت بـ«عدم استخدام الرصاص الحي، ولكن سقط عدد كبير من المتظاهرين ومن القوى الأمنية… وقد باشرنا بإجراء تحقيقات تفصيلية في كل مواقع الأحداث».
كما تطرّق إلى «حزمه الإصلاحية»، مجدداً التزام حكومته بـ«نص خطبة المرجعية الدينية العليا (آية الله علي السيستاني)»، لناحية «تشكيل لجنة إصلاحية، وتهيئة الدعم اللوجستي لها»، ليكون الإعلان عن أعضائها في غضون أسبوع. ومن أبرز «الإصلاحات» المنتظرة توقّف الدولة عن دفع أيّ مبالغ بالعملة الورقية، وتحرير الصكوك والبطاقة الذكية لمنع التلاعب بالأموال والتخلص من غسيل الأموال والفساد. وفي خطوة أخرى تستبطن أيضاً سعياً حكومياً إلى نيل رضا «المرجعية»، لفت عبد المهدي إلى إصدار قائمة من عدد من كبار المسؤولين، وإحالتهم إلى المحاكم استكمالاً للقائمة التي صدرت قبل أسبوع لـ1000 موظف أحيلوا إلى القضاء. أما الخطوة الثالثة، والتي تستهدف على ما يبدو كفّ يد الأحزاب عن سلطته الحكومية، فطلب رئيس الوزراء من البرلمان التصويت على تعديلات وزارية مزمعة، وهو ما تشرحه مصادر «الأخبار» بأن كتاباً حكومياً سيصل اليوم إلى مجلس النواب يُطلب فيه إفساح المجال بـ«القبول بتعديلات وزارية، إلا أن عبد المهدي لم يحسم حتى الآن ما هي الحقائب الساعي إلى استبدالها ولا البدلاء عن الوزراء الحاليين».
سيتولى مجلس القضاء الأعلى مَهمة مكاتب المفتّشين العموميين
في غضون ذلك، بدأت شوارع العاصمة استعادة زخم الازدحام، مع استقبال المدارس الطلاب مجدداً، بعدما أدّت الاحتجاجات إلى تعليق الدراسة. وأُعيد، أيضاً، افتتاح طريق رئيس في العاصمة يؤدي إلى ساحة الطيران، والتي شهدت احتجاجات دامية خلال الأيام القليلة الماضية. في الوقت نفسه، واصلت قوات الأمن، حسبما أفادت به وكالة «رويترز»، حملات اعتقال عدد من «المخرّبين» في المناطق الواقعة شرقي بغداد وشماليها وغربيها. وذكرت الوكالة أن القوات الأمنية تمتلك «صوراً حديثة للمحتجين للتعرف إليهم واعتقالهم»، في وقت أكدت فيه «المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق» أن السلطات أخلت سبيل حوالى 500 شخص، من بين 800 جرى اعتقالهم الأسبوع الماضي.
على خط موازٍ، أعلن مجلس القضاء الأعلى، الذي يدير السلطة القضائية في البلاد، مباشرته في مَهمة ملاحقة الفساد داخل الدوائر الرسمية، نيابةً عن مكاتب المفتشين العموميين، إثر قرار البرلمان، أول من أمس، حلّ تلك المكاتب التي تحولت في الغالب إلى ستار للتغطية على الفساد المستشري في مؤسسات الدولة. وقال بيان صادر عن المجلس إن «الادعاء العام سيتولى المَهمة بالتنسيق مع هيئة النزاهة، وديوان الرقابة المالية، والدوائر القانونية في الوزارات، والجهات غير المرتبطة بوزارة»، مضيفاً أن «العمل سيتركز في البداية على تشخيص حالات مخالفة القانون، والتعليمات إن وجدت، وعرضها على محاكم التحقيق المختصة بقضايا هيئة النزاهة». وتابع أن «القضاء لا يخشى من مجابهة الفاسدين والمجرمين، لكن وفق الأدلة والبراهين التي يستلزمها القانون».
إلى ذلك، دعت وزارة الخارجية الأميركية، فجر الثلاثاء – الأربعاء، في بيان، الحكومة العراقية إلى التحلّي بـ«أقصى درجة من ضبط النفس»، لافتة إلى أن الوزير مايك بومبيو شدّد في اتصاله مع رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، على ضرورة محاسبة كلّ متهم بـ«انتهاك الحقوق الإنسانية». وأضاف بيان الخارجية أن بومبيو أعرب عن أسفه للخسائر في الأرواح خلال الأيام القليلة الماضية، في حين أشار مكتب عبد المهدي إلى أن الوزير الأميركي «عبّر عن ثقته بالقوات العراقية، ودعم الولايات المتحدة للعراق ولجهود الحكومة في تعزيز الأمن والاستقرار».
محاولات «تنفيس» الغضب الشعبي مستمرّة: إصلاحات حكوميّة وبرلمانيّة {بالجملة»
إصلاحات حكومية وبرلمانية في العراق صدرت «بالجملة»، أمس، لـ«تنفيس» الشارع الغاضب المطالب بتحسين واقعه المعيشي، عكست «قدرة» مؤسسات الدولة على مواجهة الأحزاب والفاسدين، رغم «سردية» القوى والمنتفعين بأن الدولة عاجزة عن مكافحة الفساد.
ما بدا بالأمس، افتقاد «ممثلي الشعب» جرأة المواجهة، وركونهم إلى التفرّج على انهيار مؤسسات الدولة طوال الفترة الماضية.
دفع الحراك المطلبي الدامي الحكومةَ الاتحادية في العراق، برئاسة عادل عبد المهدي، إلى التحرّك سريعاً وإطلاق «الحزمة الثانية» من الإصلاحات لاستيعاب مطالب المتظاهرين، وتهدئة الشارع الغاضب عقب الأحداث الأخيرة. وإلى جانب الخطوات الحكومية، أعاد النوّاب الحياة إلى برلمانهم، بحضور غير مسبوق في جلسة أمس برئاسة الرئيس محمد الحلبوسي، وحضور 212 نائباً، صوّتوا فيها على «إنهاء أعمال مجالس المحافظات»، في خطوة «جدّية» للحدّ من الفساد والهدر، بوصف تلك المجالس «مغارة» القوى السياسية، التي تقتطع جزءاً كبيراً من ميزانيات تلك المجالس لمصلحة «لجانها الاقتصادية»، عدا عن الاستحواذ بقرارها الخدمي ــــ الإنمائي، بناءً على مصالحها السياسية وحساباتها الانتخابية.
حديث الفساد في «بلاد الرافدين» لا ينتهي، والإصلاحات «السريعة» التي أُعلن عنها لـ«تنفيس» الشارع تفرض دراسة جدّية لجدواها الاقتصادية، وما يمكن أن يسفر عنها لاحقاً، وانعكاساتها على بنية البلاد الاقتصادية، وحركتها. البرلمان، صوّت أيضاً على اعتبار الضحايا الذين سقطوا من المتظاهرين والقوات الأمنية «شهداء»، وتعويض ذويهم وإطلاق سراح المعتقلين، إضافة إلى إطلاق منحة مالية للطلبة وشمول الفقراء برواتب شهرية، وإعادة «المفسوخة عقودهم» في وزارتَي الدفاع والداخلية و«هيئة الحشد الشعبي»، وفتح باب التطوع فيها. كما صوّت البرلمان على إيقاف حملة إزالة التجاوزات وبناء مجمعات سكنية للمتجاوزين والنازحين، وإنصاف عوائل المفقودين والمغيّبين في الموازنة الاتحادية لعام 2020، وتعويض المتضرّرين من الإرهاب والعمليات العسكرية وإلغاء مكاتب المفتشين العموميّين.
صوّت البرلمان على إلغاء مكاتب المفتّشين العموميّين
وخيّم «هدوء حذر» على أجواء العاصمة العراقية بغداد، لليوم الثالث على التوالي. حركة المرور عادت إلى مستوياتها المعتادة، بالتوازي مع تحسن شبكة الإنترنت، التي قطعت معظم أيام الأسبوع الماضي، إذ كان لافتاً أمس تداول الناشطين على شبكات التواصل الاجتماعي صوراً ومقاطع فيديو لأحداث العنف والعنف المضاد، والتي أسفرت عن مقتل أكثر من 110 أشخاص، وإصابة 6 آلاف آخرين.
في غضون ذلك، أعلنت «خلية الإعلام الأمني» مقتل عنصر أمني وإصابة أربعة آخرين بإطلاق نار كثيف بالقرب من «ساحة مظفر» في مدينة الصدر، شرقي العاصمة بغداد. وأفاد البيان بأنّه وفي خلال تأمين الحماية للمجلس البلدي والمحكمة والمتظاهرين بالقرب من الساحة، عبر قوة غير مسلحة تابعة لحماية المنشآت، وأثناء وجودها بالقرب من المتظاهرين، تعرّضت لإطلاق نار كثيف أدى إلى سقوط أحد المنتسبين وجرح أربعة آخرين، بينهم ضابطان، مضيفاً إن «القوّة لم تردّ على النار بالمثل، منعاً من التصعيد الذي قد يقود إلى مزيد من الضحايا».
بدوره، أصدر مجلس الوزراء «الحزمة الثانية» من الإجراءات العاجلة لتلبية مطالب المتظاهرين. وأعلن البيان تشكيل «اللجنة العليا لتوزيع الأراضي السكنية» برئاسة عبد المهدي، وعدد آخر من المسؤولين، تتولى مهمة «تهيئة الأراضي الزراعية اللازمة لتخصيص القطعة السكنية للمستحقين من المواطنين، وتجميد العمل بالقوانين التي تمنح الحق بتسلّم الشخص أكثر من راتب أو تقاعد أو منحة، وتوزيع منظومات طاقة شمسية متكاملة إلى 3 آلاف عائلة فقيرة مجاناً، وتبسيط إجراءات تسجيل الشركات الصغيرة للشباب (للفئة العمرية 18 – 35 سنة)، وإعفاؤهم من الأجور المستحدثة لغرض توفير فرص عمل لهم».
الاحتجاجات في الإعلام الغربي: بين «الفرصة»… وحتمية سقوط حكومة عبد المهدي
لم تتوحّد وسائل إعلام الغرب خلف قراءة واضحة إزاء المشهد العراقي؛ فبين دعوة تلك التي تصف نفسها بـ«الليبرالية» إلى إعطاء حكومة عبد المهدي فرصة لحلّ الأزمة، وتحذير أخرى من مآلات «العنف غير المنضبط»، تذهب الأكثر يمينيّة إلى «حتمية» سقوط الحكومة
«ستراتفور»: تواصل الاحتجاجات سيؤدّي «عاجلاً وليس آجلاً» إلى سقوط الحكومة
في مقال آخر نُشر في «واشنطن بوست»، يقارن كاتبه بين الاحتجاجات في هونغ كونغ وتلك التي تجوب مدن العراق، رغم عدم وجود تقاطعات أو حتى أوجه شبه بين الحالتين. التظاهرات في العراق، يقول، تفتقد هيكلاً تنظيمياً وقيادة، وتُعدُّ مظهراً من مظاهر الإحباط، سببه الفساد، وسوء الخدمات العامة، وارتفاع معدلات البطالة. وبهدف استعادة النظام، فرضت السلطات العراقية حظراً للتجوال وقطعت الإنترنت، لكن ذلك لم يخفّف من غضب المحتجّين، وهو ما يستهدف، جزئياً، «تأثير طهران الضخم في الشؤون العراقية». من جهتها، قارنت «إيكونومست» بين الاحتجاجات الأخيرة وتلك التي خرجت في سنوات سابقة؛ ففي عام 2016، مثلاً، اقتحم آلاف العراقيين المنطقة الخضراء، حيث مقرّ الحكومة، مطالبين بإجراء إصلاحات سياسية. أما راهناً، ومع اتساع نطاق التظاهرات، شهدت عواصم المحافظات تحركات كبيرة خصوصاً في الجنوب، واحتجاجات أصغر وأكثر عنفاً في الضواحي. وإذ تشير إلى أن الإحباطات الاقتصادية والسياسية تمثّل لبّ الاحتجاجات، لكن «الغضب» كان موجهاً ضدّ إيران، صاحبة «النفوذ المفرط». فإقصاء قائد جهاز مكافحة الإرهاب، الفريق الركن عبد الوهاب الساعدي، دفع بالقبائل الجنوبية إلى الشارع، وفق المصدر ذاته، إذ يعتقد هؤلاء بأن «مساعيه للقضاء على الفساد في الجيش، وخصوصاً بين جماعات الميليشيات الشيعية التي لها علاقات وثيقة مع إيران»، تسبّبت في إقالته. على المنوال ذاته، رأت «بي بي سي» أن الحراك المطلبي الأخير قد يشكّل نقطة تحوّل خطيرة، خصوصاً أن العراقيين لا يدعون، ببساطة، إلى سقوط زعيم أو حزب سياسي، لكنّهم يطالبون بإنهاء نظام سياسي قائم منذ غزو العراق في عام 2003، وهو نظام، كما يجادلون، «خذلهم». هؤلاء يشيرون تحديداً، بحسب «بي بي سي»، إلى الطريقة التي تجري فيها التعيينات الحكومية، ما يسمح للزعماء الشيعة والأكراد والسنّة وغيرهم بإساءة استخدام الأموال العامة وإثراء أنفسهم وأتباعهم ونهب ثروات البلاد. وتضيف أنه «لدى تولّيها السلطة في العام الماضي، وعدت حكومة التكنوقراط بقيادة عبد المهدي بمحاربة الفساد. وبعد مرور العام الأول، أثبت أنه غير قادر وغير راغب في التصدي للطبقة السياسية».
وفي حين يحتاج العراق إلى المساعدة، لا يزال تركيز الحكومات الغربية منصبّاً، أكثر من أي وقت مضى، على حريق محتمل يمكن أن ينجم عن حرب بين واشنطن وطهران مسرحه الأراضي العراقية، من دون استراتيجية لتعزيز سيادة هذا البلد. الحقيقة القاسية، بحسب «نيويورك تايمز»، بالنسبة إلى الولايات المتحدة، هي أن بغداد تعتمد بشكل مفرط على طهران، خصوصاً حين يتعلق الأمر بتلبية احتياجاتها اليومية من الغاز الطبيعي الإيراني وغيره من المنتجات، إذ تبلغ تجارة العراق السنوية مع إيران ما قيمته حوالى 12 مليار دولار، بينما تبلغ قيمة الصادرات الأميركية إلى العراق 1.3 مليار دولار فقط. وفق المصدر ذاته، يمكن واشنطن المساعدة في الحدّ من هذا الاعتماد وتعزيز السيادة العراقية من خلال تمكين بغداد من بناء علاقات أقوى مع البلدان التي يمكن أن توفّر لها بدائل.